رأي

اليمنيون… صراع مع طواحين الهواء

كتب مصطفى النعمان في “اندبندنت عربية”: ” “الصراع مع طواحين الهواء”، عبارة التصقت بالأديب الإسباني الأشهر ميغيل دى ثيرفانتس في روايته الشهيرة “دون كيخوتي”، التي كتبها في جزأين بين 1605 و1614، ثم صارت تجري على كل الألسن لتصف حال من يعيش في وهم أنه الفارس الذي لا يُشقّ له غبار، والقادر على صنع المعجزات، بينما هو في حقيقة الأمر ضعيف البنية، وله حصان هزيل “روسينانتي”، ويرافقه فلاح بسيط “سانشو بانثا” أقنعه بمنحه جزيرة ليحكمها بعد أن يحكم هو العالم الذي صنعه في خياله.

تأثر الخمسيني “دون كيخوتي” بما كان يقرؤه من روايات الفروسية، وأدرك أنها تقوم على المبالغات وتزييف الواقع، فعمل على تشكيل شخصية الفارس الذي لا يُشقّ له غبار، وأن عليه مسؤولية إنهاء المظالم، فتبدأ المغامرات فوق حصان “روسينانتي”، ومعه رفيقه “سانشو بانثا”، إلى أن يقرر يوماً مقاتلة أذرع طواحين الهواء الهائلة التي رأى أنها تمثل مصدراً للشر على الأرض، لكنها في دورانها، قذفت به بعيداً.

وهكذا، استمرت من دون توقف، (من دون معارك يتخيلها في عقله المشحون بروايات الفرسان الأبطال، فدخل معركة خيالية مع قطيع من الأغنام توهمه جيشاً عظيماً، فقتل عدداً منها، إلا أن الرعاة لاحقوه وأمطروه بالحجارة ليفر من أمامهم).

حين يشاهد المرء كل ما يقال ويدور في اليمن وحوله وكيف انبرى كل من يعرف ولا يعرف في التحليل والاستنتاج، لا بد له أن يستعيد أحداث الرواية الشهيرة، وصار كل ما يجري ساحة للاسترزاق في الداخل والارتزاق مع الخارج، ومعهما جرت عملية استقطاب غير مسبوقة زاد من حدتها غياب القيادات الوطنية الحقة التي تُعلي مصلحة الوطن على مصالحها الخاصة الضيقة، ومصالح أحزابها، وتنظيماتها، وتكتلاتها، ومناطقيتها.

والحقيقة أن ما رفع حدة هذا الوضع هو التنافس الإقليمي على كسب مساحات داخل البلاد، وحول الكثيرين من حال الارتهان إلى الوطن إلى الارتهان إلى الخارج، وتوجه كل منهم حسب مصادر التمويل المتاحة.

في حال البحث بعيداً من التعصبات والانحيازات في أسباب الصراع الحقيقية، فإن الحرب الدائرة اليوم ليست إلا نتيجة ومحركاً ومحفزاً لها، ولكنها حتماً ليست سببها الحقيقي، فمفهوم الدولة في الوعي اليمني، طيلة العقود الماضية، لم يكن مرتبطاً بمؤسسات راسخة وتقاليد متراكمة، بل على شخصية الحاكم الفرد حتى وإن تدثر بغطاء الشورى والديمقراطية، إذ لم تكن أكثر الأحزاب والتنظيمات سوى تجمعات يتم استدعاؤها في المهرجانات الانتخابية، وكانت كلها تسعى إلى حد التوسل للاقتراب من الرئيس، في الماضي واليوم، لتحصل على بعض من غنائم الدولة مناصب ومساعدات، والأهم الرضا، والقبول.

أنا لا أختلف أبداً مع الذين يؤمنون بنظرية أن جماعة “أنصار الله” الحوثية هي التي استدعت الحرب التي تقترب من عامها الثامن، ولا أشكك في أن إيران ساعدتها تدريباً وتسليحاً، وهذا جزء مهم للغاية من المشهد، لكن في المقابل، فإن الواقع يشهد أيضاً أن الحكومة التي تمثل الشرعية الدستورية لم تتمكن من الارتفاع بمسؤولياتها الأخلاقية والوطنية إلى الحد الذي يمكنها من الدفاع عن شرعيتها ومشروعيتها. وأيضاً، أنا لا أضع المقارنة بين “الجماعة” و”الحكومة”، ولكنني أشير فقط إلى فارق المسؤوليات بينهما، فعلى سبيل المثال، ظلت الحكومة السورية حتى فترة قريبة حريصة على دفع مرتبات موظفيها في المناطق التي كانت خارج سيطرتها لأنها السبيل لبقاء الموظف مرتبطاً بالجهة التي تمنحه راتبه، وهو ما تخلّت الحكومة اليمنية طواعيةً عن القيام به حتى في قطاعات التعليم والصحة.

إن انشغال عدد من كبار موظفي الرئيس هادي إلى حد الانغماس بتقمص دور “دون كيخوتي”، يضع اليمن كلها أمام مأزق يصعب الفكاك منه، وبدلاً من العمل الجاد في إصلاح الأوضاع المعيشية في المناطق التي لا تقع تحت سيطرة جماعة “أنصار الله” الحوثية، فإننا نجد حالاً من الفوضى التي تتسبب بها الخلافات البينية داخل مكونات “الشرعية”، وليس الحل في الفكرة الساذجة “إعادة هيكلتها”، كما ينادي بعض مناصريها، لأن ذلك سيعني حتماً إعادة التدوير داخلها، بينما الواقع أنها تحتاج بداية إلى عملية حاسمة تضبط نشاطاتها كافة، وتفعيل كل المؤسسات الرقابية وخصوصاً جهازي الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد وإبعادهما عن الصراع السياسي والوظيفي الذي يشغل “الشرعية” صباح مساء، فالمواطنون لم يعودوا يشعرون بوجودها إلا في القرارات العشوائية التي تصدر لتضخيم الجهاز الوظيفي واستنزاف الموارد على شحتها.

جسّد ثيرفانتس شخصية المدعي المزيف “دون كيخوتي” ليسخر من الذين يدعون الفروسية من دون أن يمتلكوا مواهبها وصفاتها، وهكذا اشتهرت عبارة ذاع صيتها “الصراع مع طواحين الهواء”، التي قذفته بعيداً، لأنه كان يستعين بجاهل وبحصان هزيل، وذاك درس يجب استيعابه، فالبطولات لا تتحقق إلا بالعمل والنزاهة والصدق مع النفس ومع الناس، وللأسف فاليمن يعجّ بأشباه “دون كيخوتي” الذين يتصدرون المشهد السياسي والإعلامي، وصاروا منهمكين في أحلامهم الكاذبة وبطولاتهم المزيفة وخداع الذات، وبطموحات لا تؤهلهم كفاءتهم وتراكم تجاربهم وإرثهم الثقافي لتحقيقها، وستنتهي أوهام الزعامة كما انتهى الفارس بين التعاطف والشماتة.

قال ثيرفانتس، إن كتابه ليس إلا “كبح، بل تحطيم ما كتب عن الفروسية من تأثير وسلطان عند عامة الناس”، وإن هدفه هو أن يجعل الناس “يكرهون القصص المفتعلة الخيالية التي ترويها كتب الفروسية”.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى