الهروب إلى الجحيم !
كتب محمد مفتي في صحيفة عكاظ.
في عالم السياسة المعقد، تحتاج عملية اتخاذ القرارات إلى الحكمة وعدم الاندفاع، فالتعامل الدولي شائك ومليء بالتحديات، والسياسي الناجح عليه التفكير ملياً في كل خطوة قبل أن يخطوها؛ لأن خطوةً واحدةً فقط في الاتجاه الخاطئ ستحمل دولته تبعاتها التي قد تلقي بها وبشعبه إلى الهاوية، كما أن السياسي المُحنك هو من يقرأ التاريخ والواقع معاً بحيث يمتلك المقدرة على تقييم الأمور ويتمكن من وضعها في حجمها الطبيعي دون تقليل أو إفراط.
تنبثق الخطورة الحقيقية في المواقف السياسة عندما ترتبط بالحلول العسكرية، فالثمن وقتها يكون باهظاً للغاية، وبعض القادة السياسيين في التاريخ القديم والحديث تغلب عليهم صفة الحماقة والاندفاع، وبالتالي تتراكم أخطاؤهم بحيث يصبح من المستحيل على المجتمع الدولي قبولها، فكما يقول رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرشل «تأتي المشكلات من تراكم الهفوات».
أحياناً تكون قرارات بعض الزعماء ناتجة عن مشكلات لا وجود لها إلا داخل عقولهم، وعندها تغلب عليهم الظنون والشكوك البعيدة عن الواقع، وأحياناً تكون تبعات القرار ذات نتائج أسوأ من المشكلة نفسها من منطلق التكلفة والعائد، فمن الحماقة أن يدفع المرء ثمناً باهظاً في مقابل استرداد شيء ثمنه الأصلي أقل بكثير مما دفعه لاسترداده، فقد انطلقت أولى شرارات الحرب العالمية الثانية عندما قام هتلر بغزو بولندا لاسترداد ممر دانزنغ؛ الذي كان يرى أنه اقتُطع من ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى بموجب معاهدة فرساي، وقد تتابعت نتائج هذا الغزو حتى انتهت بدمار ألمانيا نفسها.
في عام 1990، قام صدام حسين بأكبر حماقاته بغزو الكويت ليسترد ما أسماه حقولاً نفطية حدودية، ولكن ادعاءاته كانت تخفي طموحاته التي تجاوزت تلك الحقول إلى احتلال الكويت نفسها، وقد غلبت الحماقة على تفكيره مما تسبب في أن تتكبد بلاده خسائر بشرية واقتصادية أضعاف أضعاف ما كان يزعم بأنها حقوق للعراق، وقد توالت خسائر العراق متتابعة عبر السنين حتى انتهى بها الحال إلى تغلغل الجماعات الإرهابية داخل أراضيها، وهو ما يهدد مستقبل العراق ذاته وليس حاضره فحسب.
ولو تأملنا ما يدور حولنا من أحداث راهنة، فسنجد أن نموذج الحرب الروسية الأوكرانية هو نموذج معبِّر عن قضايا تم خلالها استخدام الحل العسكري، فروسيا قد اعترتها المخاوف من انضمام أوكرانيا لحلف الناتو مما دفعها لخوض حرب تجاوزت العام، ولا يبدو في الأفق بوادر لنهايتها، وعلى ما يبدو لم يدر بخلد الحكومة الروسية أنه سيتم دعم أوكرانيا بمثل هذه القوة على مدار هذه الفترة الطويلة إلى الحد الذي دفعها للتفكير في قلب المائدة وعكس الأدوار ومهاجمة روسيا بدلاً من دفع الهجوم عنها فحسب.
من المؤسف أن تكون المخاوف التي كانت لدى روسيا -والمتعلقة بانضمام أوكرانيا للناتو خشية من دعم الناتو لأوكرانيا- قد تحولت لحقائق فعلية دون حتى انضمام الأخيرة رسمياً لهذا الحلف، وكأن روسيا هي من سلحت أوكرانيا ومنحتها كل هذا القدر من الدعم بسبب قراراتها غير المدروسة، ولو اتصفت القيادة الروسية بالحصافة والحكمة الكافيتين لتمكنت من تقييم الموقف بصورة شاملة، وفطنت إلى أن الحرب مع أوكرانيا ما هي إلا مستنقع أرادت من خلاله دول الحلف استدراج روسيا له، ولكن سوء التقدير والافتقار للحكمة والاندفاع هو ما دفع الحكومة الروسية لشن حرب أساءت لروسيا كثيراً كدولة عظمى.
يعجّ التاريخ بالكثير من الدروس والعبر التي ينبغي أن نتوقف عندها كثيراً، فالحروب ليست نزهة لطيفة وليست قراراً أحادياً يتخذه أحدهم لتحقيق غرض ما في نفسه، فالحرب قد تكون في الظاهر بين طرفين بشكل مباشر، لكنها في الحقيقة تضم أطرافاً كثيرة في الخفاء بشكل غير مباشر، هذه الأطراف في الغالب لا تريد أن ينطفئ لهيب الحرب، والحرب قرار معقد وكل خطوة فيه يجب أن يتم اتخاذها بغاية الانتباه والحذر، فعواقبها وخيمة وقد تجر البلد للجحيم لأجيال عديدة تالية، فمن يريد أن يهرب من وضع سيئ لا يجب عليه أن يتخذ قراراً أسوأ من وضعه الراهن، ومن يريد الهروب من الجحيم عليه ألا يندفع إلى جحيم آخر قد يكون أشد وطأة من الحالي.