المواطن الإيراني بين رغيف الخبز وقنبلة اليورانيوم

كتبت سالمة الموشي في صحيفة إندبندنت عربية.
في عالم السياسة لا يمكن فصل طموحات الدولة في تعزيز سيادتها عن الحاجات الحياتية لمواطنيها، وحيث تحدد الحكومات أولوياتها على الساحة الدولية يبقى المواطن/ الإنسان يعايش تحديات يومية تؤثر في استقراره، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية التي تواجه النظام الإيراني اليوم، فبينما تواصل طهران تأكيد حقها المشروع في امتلاك برنامج نووي سلمي وترى فيه مصدر قوة استراتيجية عظمى تظهر على الجانب الآخر كثير من التساؤلات العالقة في سياق (ماذا بعد؟ وإلى أين؟) أن هذا لا يقرأ فقط من زاوية الأحداث القائمة بل ينعكس مباشرة على الداخل، حيث يواجه المواطن تحديات متفاقمة في حياته اليومية من تأمين أساسات المعيشة إلى القلق المستمر من تداعيات العقوبات.
وهنا لا تكمن الإشكالية في مشروع الدولة ذاته بل في الفجوة المتزايدة بين رمزية الخطاب السياسي وواقعية الحاجات الاجتماعية. فبينما تتقدم ملفات التخصيب في فيينا تتراجع قدرة المواطن على مواجهة موجات التضخم والبطالة وانعدام الأفق.
في سياسات السياقات الدولية تقاس قوة الدول غالباً بمفاعلاتها لا بمخابزها، هكذا يبدو المشهد ولكن وفي طهران حيث تتقاطع حسابات الأمن القومي مع نبض الشارع يواجه المواطن معادلة بالغة القسوة أن يحيا في ظل مشروع نووي طموح، بينما يتقلص مشروعه الشخصي إلى مجرد تأمين غاز الطبخ أو عبور اليوم من دون انقطاع للكهرباء.
بعد الحرب الأخيرة لم تعد الأسئلة الكبرى تدور حول من انتصر ومن خسر بل عما تبقى من الحياة بين الركام. فالدولة تستأنف خطابها الاستراتيجي بلغة السيادة والتخصيب والتحدي الدولي بينما يتحسس المواطن الخبز في يده ويتساءل: متى تصبح حياته كريمة وملموسة في معيشته وخبزه اليومي لا فقط في خطب الجمعة؟
تحت سقف هذا التناقض تتشكل الحياة اليومية للإيرانيين. دولة تسعى إلى تثبيت وزنها في موازين القوة الإقليمية وشعب يحاول ألا يترنح تحت ثقل سعر صرف العملة اليومي. وإذا كانت الحروب تعيد صياغة توازنات الدول فهي في إيران تعيد أيضاً طرح السؤال المؤجل، ماذا يعني أن تكون قوياً في الخارج وضعيفاً في الداخل؟
في طهران لا يعود الصباح كما كان، الضوء يدخل البيوت متردداً كأنه يسأل الإذن، أصوات الشوارع مبحوحة والناس يمشون بخطى محسوبة كأنهم يسيرون فوق جهاز إنذار. هذا ليس توصيفاً أدبياً لحال حرب، بل هو واقع مدينة خرجت للتو من مواجهة مباشرة مع إسرائيل ولا تزال آثارها تقطر من الجدران والأرواح.
الحرب لم تعلن نهايتها، لا بيان رسمي أعلن توقفها ولا نفس شعبي شعر بأنها انتهت. كل ما في الأمر أن الطائرات هدأت والغارات خفت وبدأ الناس يعودون إلى أعمالهم أو ما تبقى منها. تبدو طهران اليوم كمن نجا من حريق هائل لكنه لا يزال يشم رائحة الدخان في رئتيه، المدينة لم تعد تخاف الحرب بل تخاف العيش بعدها.
في الأحياء الوسطى من طهران يعيش المواطن الإيراني بين سؤالين متناقضين، كيف سأوفر الغاز هذا الشتاء؟ ومتى ستعلن الدولة عن نسبة التخصيب الجديدة؟ يبدو الفارق شاسعاً لكنه في الحقيقة متصل على نحو ساخر. الدولة تمضي قدماً في مشروعها النووي بينما يتراجع مشروع الحياة لدى الإنسان الإيراني إلى مجرد بقاء اقتصادي ومعيشي. في كل خطوة استراتيجية تقوم بها الدولة في فيينا أو نطنز يولد سؤال صغير في حياة المواطن، هل هذه المفاوضات ستجلب لي دواءً مفقوداً؟ وهل رفع أجهزة الطرد المركزي سيؤدي إلى رفع الحصار أم إلى تشديده؟ وهل بلادي في حاجة فعلاً إلى يورانيوم مخصب بنسبة 90 في المئة بينما لا تستطيع تأمين مياه نظيفة لحي شعبي؟
لقد صارت كلمة (البرنامج النووي) مرادفاً للزمن المؤجل. أما الحاضر فهو ملك الناس بكل ما فيه من قلق وأسئلة لا تجد صدى في خطابات الدولة. توقفت الغارات لكن أسعار الخبز لم تتوقف عن الارتفاع. الكهرباء عادت لكن أيام الانقطاع تركت خوفاً لا يمحى من قلب كل أسرة. الناس يديرون يومهم كما يدار مخيم لاجئين: اقتصد في الغاز، لا تترك الهاتف يشحن أكثر من اللازم، خفف من الخروج، لا تتوقع شيئاً.
كلما خرج مسؤول ليعلن تقدماً في الملف النووي ازداد انكماش الناس داخل واقعهم. فالمفاعلات لا تضيء البيوت والطموحات الكبيرة لا تشتري حليب الأطفال. في هذه الحال يصبح المشروع النووي أقرب إلى لغز وجودي، ليس لأنه بلا أهمية بل لأنه ينتمي إلى زمن آخر، زمن الدولة ككيان مهووس بالرمزية يراهن على القنبلة بينما شعبه يراهن على بقاء المخبز مفتوحاً صباح الغد. نعم هناك ما هو أقسى من الحرب، النجاة منها من دون إحساس بالانتصار. حين تنتهي الحرب يفترض أن تعود الحفلات الصغيرة وتزداد الزيجات وترتفع الضحكات، لكن في إيران 2025 لا يحتفل الناس لأنهم لا يعرفون إن كانت هذه نهاية الحرب أم مجرد هدنة بين قصفين.
الأسر التي فقدت أبناءها والعمال الذين فصلوا بحجة الانهيار الاقتصادي يعيشون ارتجاجاً مدنياً. صدمة لا تهدأ وفقدان توازن بين ما يقال رسمياً وما يعاش فعلياً. عندما تمر قوافل الحياة اليومية من أمام المباني المتصدعة يدرك الناس أن الأشياء لم تعد تنكسر من الخارج فقط بل من الداخل أيضاً، لأنه منذ عقود لم يكن المشروع النووي الإيراني مجرد خطة طاقة، لقد تحول إلى عقيدة وطنية تماماً كفكرة الصمود. مشروع تؤمن به الدولة بوصفه ضمانة سيادية بينما يتحمله الشعب بوصفه قدراً، وهنا تكمن المفارقة. الإنسان الإيراني ليس ضد التكنولوجيا ولا ضد الطموح الوطني لكنه فقط لم يعد يرى نفسه جزءاً منه، كيف يمكنه أن يكون شريكاً في حلم نووي بينما لا يستطيع تأمين كرسي في مستشفى؟ كيف يطلب منه الصبر لأجل هيبة الجمهورية بينما لا أحد يصبر على معاناته الفردية؟
بات التخصيب أقرب إلى ترياق رمزي للسلطة بينما يبحث المواطن عن دافع لحياته اليومية ببعض الأمل أو حتى بإنترنت غير منقطع. وحين يتحول المشروع النووي إلى بند دائم في كل خطاب بينما لا يجد المواطن بنداً يضم صوته تبدأ الفجوة بين الدولة ومجتمعها بالاتساع لا أيديولوجياً فقط بل وجدانياً أيضاً.
المجتمع الإيراني اليوم يشبه رجلاً خرج من تحت الأنقاض لكنه لا يعرف إلى أين يذهب. هناك خوف من المستقبل لا لأنه غامض بل لأنه يشبه الماضي كثيراً. الشباب الذين كانوا يحلمون بالهجرة صاروا يحلمون فقط بالمغادرة، والعائلات التي كانت تدخر لتعليم أبنائها باتت تدخر ليوم انقطاع الخبز، أما الخطاب الرسمي فلا يزال يتحدث عن الصمود وكأنه يطلب من الناس أن يكونوا شهداء في زمن السلم، وهذا ما حدث في احتجاجات أصحاب المخابر قبل أيام وتصاعد الغضب الشعبي من السياسات التي تحمل المواطن كلفة وثمن الحرب.
ليس من السهل أن تعيد دولة تعريف أولوياتها بعد الحرب لكن الأهم دائماً هو قدرتها على المواءمة بين حاجات السيادة وضرورات المعيشة، فالتحديات الجيوسياسية التي تواجه إيران لا يمكن إنكارها لكن اختزال القوة الوطنية في البرامج النووية وحدها يجعل المجتمع عرضة لفقدان التوازن بين ما يبنى على الورق وما يعاش في الواقع.
إن أي مشروع استراتيجي لا يمر عبر الإنسان سيبقى ناقصاً وغير مستدام، فالاستثمار في البنى النووية يجب أن يقابله استثمار حقيقي في البنى الاجتماعية، والرهان على الصراع الخارجي لا يغني عن الحاجة إلى بناء ثقة داخلية بين الدولة والمواطن. المواطن الإيراني لا يرفض الطموح الوطني لكنه يسعى إلى طموح معيشته أولاً، وإلى سياسة تدرك أن الأمن ليس مفهوماً أمنياً فقط بل هو أيضاً رغيف الخبز وكهرباء مستقرة وخدمات أساسية لا ترتبط بتحولات في فيينا أو مفاعل فوردو. وإذا كانت طهران تسعى إلى تثبيت موقعها في معادلات القوة الدولية فإن الخطوة الأهم تبدأ من الداخل، فقبل تخصيب اليورانيوم ينبغي تمكين المواطن الإيراني من الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، لأن استقرار الدول يبدأ من قوة مجتمعها لا من نواتها الذرية.