العلاقات الإيرانية – السودانية… أبعد من الدبلوماسية
الوجود البحري لطهران في البحر الأحمر يعطيها القدرة على تهديد المعادلات الإستراتيجية والتأثير فيها
كتب حسن فحص, في “اندبندنت عربية”:
سياسة تصفير الأزمات التي تعتمدها طهران مع الدول الإقليمية، ورغبة هذه الدول في الوصول إلى الهدف نفسه ومحاصرة سياسة التوتير التي اعتمدتها طهران تجاه هذه الدول، تخدم الأهداف الإستراتيجية لطهران وحلفائها الشرقيين أيضاً.
حاجة النظام الإيراني لتكريس وجوده العسكري والأمني في البحر الأحمر وإعطائه بعداً رسمياً من خلال عقد اتفاقيات مع الدول المطلة عليه من الجانب الأفريقي، يشكل دعماً كبيراً وتعزيزاً للدور الذي يؤديه الحليف اليمني وجماعة الحوثي في إطار هذه الرؤية الإستراتيجية، الأمر الذي يجعل من هذا الوجود استكمالاً لوجوده على سواحل البحر الأبيض المتوسط ومنطلقاً لتأمين الدعم لهذا الوجود والنفوذ. هذا الوجود الذي استطاعت طهران تكريسه من خلال الدور الذي يقوم به “حزب الله” في لبنان، إلى جانب الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية والأمنية التي عقدتها مع النظام السوري التي سمحت لها بالحصول على موافقة دمشق لبناء قاعدة بحرية في ميناء اللاذقية واستثمار هذا الميناء لمدة 50 عاماً. ومن ثم توظيف هذا الوجود العسكري والأمني في دعم موقعها على خريطة المعادلات الجيوسياسية والجيوستراتيجية وحتى الجيواقتصادية التي قد ترسو عليها المنطقة في المرحلة المقبلة.
فالوجود البحري للنظام الإيراني وقواته العسكرية البحرية في البحر الأحمر من جهة ودور حلفائه على سواحل البحر الأبيض المتوسط، يعطي طهران القدرة على تهديد المعادلات الإستراتيجية والتأثير فيها على الصعيد الدولي، لقدراتها على تعطيل الملاحة في ثلاثة معابر مائية أساسية وإستراتيجية هي مضيقا هرمز وباب المندب وقناة السويس وصولاً إلى مضيق جبل طارق. وتكون قد استكملت دوائر هذا النفوذ بعدما استطاعت تشكيل منظومة برية عسكرية تحت اسم “وحدة الساحات” التي تضم حلفاءها في اليمن والفصائل العراقية وقوات الدفاع الوطني السوري و”حزب الله” اللبناني والفصائل الفلسطينية مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وغيرهما. إضافة إلى استعراض القوة الذي قامت به في الهجوم الصاروخي والمسير تحت اسم عملية “الوعد الصادق” الذي شنته على تل أبيب انتقاماً لاستهداف سيادتها في مبنى القنصلية الملحق بسفارتها في دمشق ومقتل قيادات عسكرية رفيعة في هذا الاستهداف.
وتعتقد القيادة الإيرانية أن تداعيات معركة “طوفان الأقصى” قد كسرت “الصنم” الذي حاولت تل أبيب والقيادة الإسرائيلية تكريسه في الإقليم القائم على تفوقها العسكري والأمني، وأنها قادرة على توفير الأمن لكل الدول المتحالفة معها في مواجهة الأطماع الإيرانية، لذا حسب اعتقاد طهران والمحور الذي تقوده، فإن إسرائيل ما بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تختلف عن إسرائيل ما بعد هذا التاريخ، وأنها باتت بحاجة إلى مظلة دولية لحمايتها، وهذا ما يفسّر الدعم المفتوح الذي تقدمه واشنطن وحلف “الناتو” لها لمواجهة التحدي الذي خلقه هذا المحور، لذا فإن النظام في طهران لا ينظر إلى العلاقات التي أقامتها الخرطوم مع تل أبيب بوصفها عائقاً أمام إعادة ترميم العلاقة معها، لا بل باتت ضرورة له، ليوصل رسالة إلى القيادة الإسرائيلية بأنه على استعداد للعب معها في الساحات التي يعتبرها مسرحاً لنفوذه.
الطموح الإيراني لتثبيت الوجود العسكري في المياه الدولية المحيطة بمنطقة الشرق الأوسط، يخدم أيضاً هدفاً إستراتيجياً يتعدى الأهداف الإيرانية في الإقليم، وهذا الهدف يرتبط في منظومة التحالفات التي تنسجم مع الرؤية الإيرانية بالتوجه شرقاً وتعزيز وتعميق التحالف مع روسيا والصين لبناء منظومة سياسية عالمية تقوم على التعددية القطبية في مواجهة الأحادية القطبية الأميركية، ومن ثم يصبح هذا الوجود في المياه الدولية الإقليمية بالنسبة إلى هذين الحليفين أمراً حيوياً وإستراتيجياً لأنه يوفر الأرضية للربط بينهما عبر البحار، ويسمح بربط بحر الصين الجنوبي بالسواحل الروسية على البحر الأسود، وبخاصة أن الصين التي تسعى إلى تأمين وصولها للأسواق العالمية اعتمدت الترويج لمبادرة الأمن العالمي وإقامة شراكة أمنية مع الدول المحيطة بالممرات المائية بما يخفف هواجسها من التهديد الذي يشكله مضيق “ملقا” في إطار صراعها مع الولايات المتحدة.
فالتهديد البحري الأميركي يشكل هاجساً للقيادة الصينية في أي تصعيد للصراع بينهما، ويأتي مضيق “ملقا” الذي يربط الصين مع المحيط الهندي ثم مع باب المندب باتجاه قناة السويس ومنها البحر الأبيض المتوسط وأوروبا، في مقدّم مصادر القلق الصينية، وبخاصة ما يتعلق بتدفق التجارة العالمية وشحنات النفط والغاز، لذلك فإن الوجود الصيني في مياه الشرق الأوسط من خلال تعزيز التحالف مع إيران وروسيا في هذه المنطقة، يشكل نقطة توازن لضمان استقرار الصين الاقتصادي، وورقة ضغط لمواجهة التهديدات الأميركية في مضيق “ملقا” التي قد تؤثر في 80 في المئة من صادرات الصين.
هذه الهواجس الصينية، قد تساعد على فهم الدور الذي تسعى بكين إلى القيام به في أزمات الشرق الأوسط. فانطلاقاً من سياسة التوازن التي اعتمدتها في علاقاتها مع دول المنطقة، استطاعت أن تقيم علاقات متقدمة اقتصادية وسياسية مع أهم لاعبين إقليميين، هما السعودية وإيران، وأن تلعب دوراً فاعلاً وأساسياً في إعادة ترميم العلاقة بينهما ورعاية اتفاقية إعادة العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية في مارس (آذار) 2023.
وجاء الإعلان عن نجاح الوساطة أو الرعاية الصينية في التوصل إلى توقيع اتفاقية “وحدة وطنية” بين السلطة الفلسطينية وحركة “فتح” من جهة و14 فصيلاً فلسطينياً بينها “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ليؤكد التوجهات الصينية بالدخول على الأزمات الدولية بآليات مختلفة وخطوات هادئة، تصبّ في إطار تثبيت حضورها على الساحة الدولية ولعب دور في ملفات عجزت واشنطن عن تحقيق إنجازات فيها.
إضافة إلى أن الصين وروسيا، اعتمدتا سياسة الانفتاح والتعاون والتوازن في علاقاتهما مع الدول المؤثرة في الشرق الأوسط، خصوصاً السعودية، من دون أن ينعكس ذلك سلباً على مسار تحالفاتها الطموحة مع إيران التي من المفترض أن تأخذ بعداً إستراتيجياً على مختلف المستويات السياسية والأمنية والعسكرية والتجارية والاقتصادية والمالية.
من هنا، فإن سياسة تصفير الأزمات التي تعتمدها طهران مع الدول الإقليمية، ورغبة هذه الدول في الوصول إلى الهدف نفسه ومحاصرة سياسة التوتير التي اعتمدتها طهران تجاه هذه الدول، تخدم الأهداف الإستراتيجية لطهران وحلفائها الشرقيين أيضاً، ولا تخرج عن خطوة ترميم العلاقة بين طهران والخرطوم التي لم تحصل بعيداً من عين الرياض والتفاهم معها، على هذه الأهداف، إلا أنها تشكل أيضاً حاجة روسية وصينية لضرورة وجود جسر إقليمي يعيد ترميم وجودهما في هذه المنطقة التي كانت ولا تزال تشكل مجالاً حيوياً لمصالحهما الاقتصادية والسياسية ومدخلاً ضرورياً لدورهما في القارة السوداء.