العرب وإيران

كتب علي أنوزلا في صحيفة العربي الجديد.
غريب موقف بعض العرب من إيران، فهم معها عندما تقاتل إسرائيل بدلا عنهم، وهم ضدّها عندما تتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع الكيان الصهيوني، بل إن بعضهم من السلفيين ممن لم نسمع لهم أي صوت ضد جرائم الحرب المتواصلة في غزّة كانوا يرفعون أكفهم إلى السماء أن “يضرب الله الظالمين بالظالمين”، مساوين في ذلك بين إسرائيل، الدولة المحتلة التي قامت على أنقاض دولةٍ عربيةٍ وتشريد شعبها، واستولت على جنوب سورية وما زالت تحتل أرضاً في لبنان، ولا تخفي مطامعها في الأردن والعراق ومصر، وتقصف المنشآت الحيوية في اليمن وتخترق عدة دول عربية تحت غطاء التطبيع، وبين إيران التي دعمت المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن وسورية، وقاتلت بسلاحها وجيشها وخسرت قادتها وعلماءها. فهل يستوي المحتل الغاصب المجرم الفاشي مع المناصر والمساند والحليف؟ هل يستوي العدو الذي يخطّط لاحتلال البلاد واستعباد العباد مع الصديق الوفي الذي لم تجد فلسطين وشعبها سندا آخر غير سنده في وقت الشدّة والمحنة؟ مشكلة بعض العرب، وغالبا بسبب عمائهم الإيديولوجي أو تزمتهم العقائدي، وربما خدمة لمصالحهم الشخصية وحساباتهم السياسية، لا يميّزون بين عدوهم اللدود وحليفهم الموضوعي، وإيران اليوم في موقف الحليف الموضوعي المناصر لفلسطين، وخصوصاً غزّة التي تشهد حرب إبادة غير مسبوقة في المنطقة والتاريخ.
زهاء أربعة عقود ونصف العقد، عملت آلة الدعاية الرسمية لبعض الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج على شيطنة الثورة الإيرانية، وصنعت منها عدوّاً مشتركاً لشعوبها خدمة للمصالح السياسية الضيقة لكل نظام عربي حسب سياقاته الداخلية، ونجح النظام العربي الرسمي في تحويل طهران إلى العدو الأول للعرب في التصوّر الجمعي للعقل العربي، وقد لعبت عدة أنظمة عربية بعينها دور المحرّض على إيران ونظامها وثقافتها وشعبها، أحياناً باسم خطر تصدير الثورة وأحيانا أخرى باسم الخوف من نشر المذهب الشيعي، وفي مرّات أخرى باسم تمدّد أطماع النفوذ السياسي للإمبراطورية الفارسية.
ليس مهما التذكير بأن إيران الثورة عندما قامت عام 1979 أول ما فعلته لنصرة فلسطين طرد السفير الإسرائيلي من طهران ووضع العلم الفلسطيني على مبنى السفارة الإسرائيلية، وكان رد النظام العربي الرسمي على تلك الثورة التي أزاحت نظام الشاه العميل لأميركا وإسرائيل، هو إعلان أطول وأعنف حرب ضدها قادها نظام صدّام حسين، بدعم من أميركا التي كانت تريد سحق الثورة الإيرانية، وبتمويل سخي من أنظمة عربية كانت تخشى من انتقال عدوى الثورة إلى شعوبها المقموعة.
يؤاخذ بعض العرب طهران على وقوفها إلى جانب النظام القمعي في سورية ضد ثورة شعبه عليه، لكنهم ينسون أن بعض الأنظمة العربية هي التي عملت على تسليح الثورة الشعبية السورية وعسكرتها في بدايتها لوقت مد ربيع الشعوب العربية، وقد “تهاوشوا” في ما بينهم طوال سنوات الحرب الأهلية السورية التي استمرت زهاء 13 عاماً دُمّرت فيها سورية.
من مصلحة الشعوب العربية أن تكسب نظام طهران حليفاً لها، لا أن تحوّله إلى عدو وتؤجّج غضبها ضده
أما من يبرّرون العداء لإيران بسبب نفوذها في المنطقة فلا يجب أن ننسى أن هذا النفوذ إنما استدعته وحمته أطرف وأطياف هي جزء من نسيج مجتمعات هذه الدول، ومع ذلك هو يعتبر تدخلا في شؤون دول عربية يستوجب الإدانة وعدم السكوت عنه أو التسامح معه. وفي المقابل، يجب أن نشهد بأن إيران لم يسبق لها أن احتلت أي دولة عربية أو استولت على أراضيها كما فعلت إسرائيل وتفعل، وحتى جزر الإمارات الثلاث التي تطالب أبوظبي بالسيادة عليها فقد احتلتها طهران عام 1971، ثماني سنوات قبل قيام الثورة الإيرانية، في عهد الشاه الذي كان صديق بعض الأنظمة العربية والحليف القوي لأميركا وإسرائيل بالمنطقة.
ومن يحاولون تصوير العداء مع إيران بأنه عقائدي قديم بين السنة والشيعة يسعون إلى إشعال الفتنة في المنطقة وجرّ الجميع إلى حروب بين مذاهب تعايشت في المنطقة منذ عدة قرون، فالشيعة الذين يعتبرون أقلية في بعض الدول العربية يمثلون الأغلبية في دول عربية أخرى، ومن شأن هذا الخطاب العقائدي المذهبي أن يؤجج حروباً طائفية داخل أكثر من دولة عربية. فإيران وإن كانت قد اتخذت من مذهبها الشيعي “حصان طروادة”، لمحاربة خصومها وتصدير ثورتها في بداياتها، لم تعد دعايتها تلجأ إلى مذهبها الشيعي لترويج سياستها في المنطقة، وقد أبانت عن “براغماتية” كبيرة في تجاوز عقيدتها الشيعية لخدمة مصالحها الاستراتيجية. وعلى أنظمة عربية كثيرة تعادي طهران أن تتعلم من نظامها الذي بنى قوته الذاتية العلمية والعسكرية وفرض على العالم استقلالية قراره رغم كل الحروب والعقوبات القاسية والظالمة التي تشن ضد شعبه منذ قيام ثورته. من مصلحة الشعوب العربية أن تكسب نظام طهران حليفاً لها، لا أن تحوّله إلى عدو وتؤجّج غضبها ضده. لقد شكّلت إيران طوال تاريخها عمقاً استراتيجياً للإمبراطوريات العربية في عهدي الأمويين والعباسيين، وفي عمق الحضارة الفارسية تجد الكثير من صنوف الثقافة العربية جذورها ومنبتها الأصلي. ويكفي نظام طهران اليوم أنه الوحيد في العالم الذي حارب إلى جانب الشعب الفلسطيني، والوحيد في المنطقة الذي ما زال صامداً على موقفه الثابت والمبدئي ضد كل أشكال التطبيع أو الاعتراف بإسرائيل. وما الحرب أخيراً بين إيران من جهة وإسرائيل وأميركا من جهة أخرى المدعومتين من عدة أنظمة غربية وعربية إلا دليل على أن وجود إيران قوية أصبح ضرورة استراتيجية للعرب لتحقيق توازن ردع مع إسرائيل يمنحهم القدرة على المناورة ضد كل أنواع الابتزاز الذي تفرضه عليهم أميركا اليوم وربما غدا إسرائيل بدعوى حماية أنظمتهم وحفظ سلامة واستقرار دولهم.
يحاول إعلام الدعاية الصهيونية وذبابها الإلكتروني أن يقنعنا بأن ما تعانيه المنطقة من فوضى بسبب إيران
عندما حذّر ملك الأردن عبد الله الثاني، قبل أكثر من 25 عاماً، مما سمّاه “الهلال الشيعي”، في إشارة إلى تنامي النفوذ الإيراني من طهران إلى بغداد مرورا بدمشق وبيروت، أقام ذلك التصريح الدنيا في العالم العربي، لكن اليوم لا أحد يتحدّث عن “الهلال الصهيوني” الذي بات يخترق المنطقة العربية تحت غطاء التطبيع. من متناقضات بعض العرب الذين ينتقدون إيران بدعوى استغلالها ما يسمونها “أذرعها” في المنطقة حتى يحاربوا بالوكالة عنها أعداءها، أنهم هم أنفسهم يريدون منها اليوم أن تحارب عنهم بالوكالة إسرائيل، وأن تدافع وتنصر بالوكالة عنهم الفلسطينيين!
يحاول إعلام الدعاية الصهيونية وذبابها الإلكتروني أن يقنعنا بأن ما تعانيه المنطقة من فوضى بسبب إيران، وبأن تدمير غزّة وإبادة شعبها من الاحتلال الإسرائيلي هو أيضا بسبب التدخل الإيراني في المنطقة، فيما العرب ليسوا في حاجة إلى صناعة أعداء جدد، العدو الحقيقي والوجودي للشعوب العربية هي الإمبريالية التي تعتبر إسرائيل قاعدتها المتقدمة في المنطقة. إيران والشعب الإيراني كانا وسيظلان صديقين للشعوب العربية، وكل انتصار لهما سيقوي موقف هذه الشعوب ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الهيمنة الأميركية وضد أنظمتها المستبدة التي صنعت فزاعة الخطر الإيراني لتبقى جاثمة على صدور شعوبها. أما النظام الإيراني فكيفما كانت المؤاخذات عليه والانتقادات له فسيبقى شأناً إيرانياً داخلياً يخص الشعب الإيراني القادر على تقرير مصيره بنفسه. يجب ألا نفقد البوصلة، عدو الشعوب العربية هي إسرائيل التي تحتل فلسطين وشرّدت شعبها وتبيد اليوم آخر من بقوا صامدين من أهلها على أرض أجدادهم، ولا تقف أطماعها عند حدود فلسطين التاريخية وإنما تتجاوزها إلى كل دولة عربية من المنامة إلى الرباط.