رأي

الصين وأزمتها المائية المتعاظمة

كتب غابرييل كولنز في “اندبندنت عربية”:

تقف الصين على شفير كارثة مائية، وحلولها للجفاف على مدى أعوام قد يجر على البلاد أزمة مياه تامة. ولن يؤثر ذلك في نتاج الصين من الحبوب والكهرباء وحسب، بل قد يؤدي إلى نقص عالمي حاد في الأغذية والمواد الصناعية بمعدلات تتخطى كثيراً ما شهدناه جراء جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا.

ونظراً إلى وزن الصين الراجح في ميزان الاقتصاد العالمي يحتمل حصول اضطرابات رداً على نقص المياه، وقد يتردد صدى هذه الاضطرابات في أسواق الغذاء والطاقة والمواد الأولية العالمية، ويؤدي إلى اختلالات اقتصادية وسياسية في العالم لسنوات مقبلة.

وعلى خلاف السلع الأخرى ليس للمياه بدائل ممكنة، فهي عامل أساسي في إنبات الأغذية النباتية وتوليد الطاقة واستدامة الحياة البشرية. وأدت المياه في الصين دوراً بارزاً في النمو الجامح الذي أنجزته البلاد. وهي تستهلك اليوم عشرة ملايين برميل مياه يومياً، أي 700 مرة أكثر من استهلاكها اليومي للنفط.

وأدت أربعة عقود من النمو الاقتصادي المفرط، والمقترن بسياسات الأمن الغذائي الهادفة إلى الاكتفاء الذاتي الوطني، إلى تخطي النظام المائي في شمال الصين مستوى الاستدامة (أي مستوى تجديد التغذية). وهذه السياسات عينها تنذر بالتسبب بالأمر ذاته في أجزاء من جنوب الصين أيضاً.

فمنذ سنة 2020 سجّلت إمدادات المياه المتوافرة هناك معدل 253 متراً مكعباً للفرد الواحد، وهذا أدنى بنحو 50 في المئة من المعدل، الذي تعتبره الأمم المتحدة ندرة مياه حادة. وتبلغ كل من بكين وشانغهاي وتيانجين وغيرها من المدن الصينية المستويات نفسها، أو أدنى.

وشحت مصادر المياه العذبة في هونغ كونغ، مما دفع هذه المدينة منذ عقود إلى استخدام مياه البحر للمراحيض. ولفهم الصورة بطريقة أفضل هنا نذكر أنه، حتى مصر، التي تعاني ندرة شديدة في المياه وفرت اعتباراً من سنة 2019 إمدادات مياه عذبة بمقدار 570 متراً مكعباً للفرد، ولم يكن عليها ضمان تغذية مائية لقاعدة صناعية ضخمة مثلما يتوجب على الصين.

تستهلك الصين اليوم 10 ملايين برميل مياه يومياً، أي 700 مرة أكثر من استهلاكها اليومي للنفط

إلى هذا فإن جزءاً كبيراً من إمدادات الصين المائية يعد غير صالح للاستهلاك البشري. وانتهت دراسة تحليلية للمياه السطحية أجرتها سنة 2018 وزارة الإيكولوجيا والبيئة الصينية إلى أنه على الرغم من تحسّن نوعية المياه، مقارنة بالسنوات السابقة، تبقى نسبة 19 في المئة من المياه المتوافرة غير صالحة للاستهلاك البشري، ونسبة سبعة في المئة من المياه المتوافرة غير صالحة لأي استخدام.

أما نوعية المياه الجوفية، الضرورية لتأمين إمدادات المياه في أوقات القحط والجفاف، فقد بدت في أسوأ حال، إذ اعتبرت نسبة 30 في المئة منها غير صالحة للاستهلاك البشري، ونسبة 16 في المئة منها غير صالحة لأي استخدام. وقد تكون الصين قادرة على التعامل مع شح المصادر المائية في المستقبل، لكن هذا ممكن فقط إن خصصت استثمارات إضافية ضخمة لمعالجة البنى التحتية، واعتمدت زيادة كبيرة في استخدام الكهرباء في عمليات معالجة المياه.

وفي الأثناء تستمر المواد الكيماوية الصناعية والزراعية في تلويث المياه الجوفية الصينية، فتمهد الطريق لعقود قادمة يُحتمل أن تشهد فيها مصادر المياه مزيداً من الشح. وتشير معطيات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى أن الصين تستخدم الأسمدة بمعدل اثنين ونصف فوق معدل الولايات المتحدة، واستخدامها المبيدات الزراعية هو أربعة أضعاف ما تستخدمه الولايات المتحدة، على الرغم من أن مساحة الأراضي الصينية الصالحة للزراعة هي أقل بـ25 في المئة من مساحة الأراضي الزراعية الأميركية.

على مدى عقود، اختارت بكين أن تكتم الحجم الحقيقي والكامل للمشكلات البيئية التي تعانيها الصين، وسعت في الحد من ردود الفعل الشعبية المحتملة، وتجنب المساءلة عن كفاءة الحزب الشيوعي الصيني وقدرته على إدارة البلاد. ويشير غياب الشفافية في هذا المضمار إلى أن أزمة المياه الحقيقية قد تكون أكبر بكثير مما يتوقعه معظم المراقبين خارج الصين، والأمر يزيد من احتمالات أن يكون العالم غير مستعد لمواجهة كارثة كهذه استعداداً مناسباً.

الأزمة الشمالية

لا شك في أن ضخ المياه الجوفية في أعماق سهول الصين الشمالية سبب أول في أزمة المياه الوشيكة في الصين. وبحسب معطيات أقمار “ناسا غرايس” NASA GRACE الاصطناعية، فإن مخزون المياه الجوفية في سهول الصين الشمالية استنزف أكثر من “مكمن أوغالالا” المائي، في أعماق منطقة السهول الكبرى بالولايات المتحدة الأميركية، ويعد بين أكثر مصادر مياه الزراعة في العالم عرضة للنضوب.

وتنبه هذه المعطيات من بعد إلى أن المنطقة الأكثر كثافة بالسكان في الصين، شمال نهر يانغتزي، أي المنطقة الممتدة من شرق سيشوان إلى جنوب جيلين ويسكنها أكثر من مليار نسمة، شهدت على مدى الـ15 سنة الأخيرة تراجعاً مستمراً في مخزون بحيراتها وأنهارها وآبارها (أي مكامن المياه).

وفي مناطق من شمال الصين، تراجعت مستويات المياه الجوفية بمعدل متر في السنة، مما قلص مخزون المياه الجوفية، الأمر الذي تسبب بانهيارات أرضية، وجعل إمكان تخزين مياه جوفية جديدة في المستقبل أمراً محفوفاً بالخطر.

وإقراراً بخطورة المشكلة أطلقت الحكومة الصينية عام 2003 “مشروع نقل مياه الجنوب إلى الشمال” بقيمة 60 مليار دولار، وهو مشروع يجر المياه من روافد نهر يانغتزي، ويسد نقص المياه في الشمال الجاف. ولأجل زيادة هطول الأمطار (والعمل أحياناً على التدخل هندسياً لتحسين الطقس، كما حصل مثلاً خلال الألعاب الأولمبية ولمناسبات الحزب السنوية)، نشرت الصين أيضاً الطائرات والصواريخ لمد الغيوم بيوديد الفضة أو بالنيتروجين السائل، وهي العملية التي تعرف بـ”استمطار الغيوم” (أو تخصيب الغيوم).

كذلك نقلت الحكومة الصينية مواقع الصناعات الثقيلة وأبعدتها من المناطق التي يسودها شح في المياه، وهي تخصيص استثمارات ضخمة للبنى التحتية المائية. وفي هذا الإطار قدر نائب وزير المصادر المائية، واي شانزهونغ، في أبريل (نيسان) 2022، أن يصل مقدار الاستثمارات السنوية في المشاريع المائية إلى 100 مليار دولار سنوياً.

إلا أن هذه الجهود لا تكفي لتدارك الأزمة، إذ على الرغم من البرامج المبتكرة الكبيرة لتوفير زيادة في المياه يرى بعض الباحثين أن إمدادات المياه قد يتدنى مستواها، مع حلول عام 2030، عن الطلب بمعدل 25 في المئة، وهذه حال تفرض مبدئياً إجراء تعديلات أساسية على الحياة الاجتماعية.

وما حصل إلى اليوم في سهول الصين الشمالية يعزز المخاوف، ويقيس حجم التدخلات الهيدروليكية الإضافية المطلوبة. وعلى الرغم من مُضي قرابة عقد على عمليات جر المياه من وادي نهر يانغتزي إلى المناطق المأزومة مائياً مثل بكين، يستمر مخزون المياه الجوفية في الانخفاض كثيراً في مناطق قريبة مثل هيباي وتيانجين.

مياه أقل غذاء أقل

تدرك القيادة السياسية الصينية أن المجاعات التي أدى إليها الجفاف والقحط أسهمت في إسقاط خمس سلالات من أصل 17 سلالة حكمت الصين، لذا شدد قادة البلاد طوال قرون على إنتاج أقصى كميات ممكنة من الحبوب لضمانة الأمن الغذائي. وهذه سياسة استمر العمل بها في برنامج التنمية الذي ينتهجه الحزب الشيوعي الصيني.

واتخذت السياسة المذكورة مكانة خاصة منذ الأعوام الأولى للقرن الحادي والعشرين، في موازاة اشتداد التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة. وكانت سياسات الحكومة الصينية على مدى السنوات العشرين الماضية حفزت المزارعين على بلوغ إنتاج الذرة والرز والحنطة (القمح) الذروة الكفيلة بتحقيق “الاكتفاء الذاتي” (تحدد مستويات الإنتاج كنسبة مئوية من الاستهلاك)، وتتخطى هذه عموماً معدل الـ90 في المئة.

وأدى استخراج المياه الجوفية (مياه الآبار) دوراً هائلاً في هذا الإنجاز، وحول سهول شمال الصين إلى أهراءات البلاد (أو سلة خبزها). وتنتج الأراضي الزراعية في سهول الصين الشمالية قرابة 60 في المئة من قمح الصين، و45 في المئة من ذرتها، و35 في المئة من قطنها، و64 في المئة من فستقها. ويتساوى إنتاج هذه المنطقة (سهول الصين الشمالية) من القمح، وهو يبلغ أكثر من 80 مليون طن في السنة، مع إنتاج روسيا لهذا المحصول، فيما إنتاجها من الذرة الذي يقدر بـ125 مليون طن في السنة يبلغ ثلاثة أضعاف إنتاج أوكرانيا لهذا المحصول قبل الحرب.

واستدامة إنتاج هذه المحاصيل تقتضي ضخ المزارع والمدن الصينية كميات مياه بمعدل يفوق قدرة الطبيعة على التعويض وتجديد التغذية. وتشير معطيات مستقاة من الأقمار الاصطناعية إلى أن شمال الصين خسر، في الأعوام التي تتوسط 2003 و2010، كمية مياه جوفية تساوي ضعفي ما تستهلكه مدينة بكين وحدها في كل سنة.

ومع تقلص كمية المياه الجوفية يجهد المزارعون في سبيل العثور على مصادر ري جديدة. فيقوم بعضهم بحفر آبار أكبر وأعمق، وبكلف ضخمة في أغلب الأحيان، إلا أن الاستهلاك المستمر قد يجعل الوصول إلى المياه أمراً متعذراً فعلاً، ولو أبدى الحفارون استعدادهم لدفع مزيد من الكلف على حفر آبار أعمق واستخدام تقنيات ضخ جديدة.

وإذا تكبّدت سهول الصين الشمالية خسارة 33 في المئة من محاصيلها، بسبب نقص المياه، فربما احتاجت الصين إلى تعويض الخسارة من طريق استيراد قرابة 20 في المئة من الذرة المتوافرة في الأسواق العالمية، و13 في المئة من قمح هذه الأسواق.

ومثل هذا السيناريو ليس بعيداً من الاحتمال. وافترضوا، في السياق، أن جفاف مطلع عام 2022 قلص نتاج الأرجنتين المنتظر من الذرة 33 في المئة. وافترضوا أيضاً أن الجفاف أدى إلى تقليص محاصيل الرز في جنوب الصين أو هيلونغجيانغ (في منطقة شمال شرقي الصين الخصبة)، فقد ينجم عن هذا اضطراب كبير في الأسواق لمستوى استهلاك الرز المفرط في الصين. وأنواع الحبوب الثلاثة الأساسية هذه (الذرة والقمح والرز) ضرورية لمئات ملايين المستهلكين من ذوي الدخل المحدود في أنحاء العالم، إذ تعد الذرة محصولاً أساسياً في أميركا اللاتينية، والقمح أساسياً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والرز في مختلف أنحاء آسيا.

وعلى الرغم من امتلاك الصين أكبر مخزون حبوب في العالم تبقى غير منيعة أمام تعاقب سنوات عديدة من تقلص المحاصيل. وحصول هذا الأمر يرجح أن يلجأ تجار الأغذية في الصين، ومن بينهم العاملون في مشاريع استثمارية كبرى تملكها الدولة مثل “كوفكو” COFCO و”سينوغراين” Sinograin، إلى الأسواق العالمية بغية تأمين الإمدادات الإضافية الطارئة.

وهذا، بدوره، سيثير موجة من ارتفاع أسعار الأغذية في البلدان ذات الدخل المرتفع، فيما يصعب حصول مئات ملايين الناس في البلدان الأفقر على الطعام. وستكون آثار نقص الأغذية الناتج عن شح المياه أسوأ بكثير من الاضطرابات التي اجتاحت البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بين العامين 2007 و2008، وكان الغذاء سببها، وهي ستدفع بعض السكان إلى النزوح وتفاقم الانقسام السياسي القائم في أوروبا والولايات المتحدة.

مشكلة الطاقة

وتتجاوز المشكلات المائية في الصين دائرة القطاع الزراعي في البلاد، فقطاع الطاقة الصيني، الأضخم في العالم، يواجه كذلك مخاطر جسيمة تتعلق بالمياه (أي بنقصها). وعلى الرغم من الاستثمارات الأساسية في مجال الطاقة المتجددة يبقى قرابة 90 في المئة من إمدادات الصين الكهربائية معتمداً أساساً على المصادر المائية، خصوصاً في المصانع التي تستخدم التقنيات الهيدروليكية والفحم، بل [حتى] في مصانع الجيل النووي التي تحتاج إلى إمدادات ضخمة ومستمرة من المياه لتشغيل مكثفات البخار، وتبريد المفاعلات من الداخل وقضبان الوقود (الجدير ذكره هنا أن جميع مفاعلات الطاقة الصينية العاملة راهناً، أو التي تنشط عمليات بنائها تقع قرب السواحل ويمكنها استخدام مياه البحر للتبريد).

والتعامل مع الآثار المترتبة على هذا القصور يصيب كل مصادر الطاقة، ويطرح مسألة جسيمة، فإذا خسرت الصين 15 في المئة من نتاج الطاقة الهيدروليكية في كل سنة بسبب نقص مستويات المياه خلف السدود، وهو سيناريو محتمل يستند إلى سوابق فعلية حصلت في البرازيل، لوجب عليها زيادة النتاج الكهربائي قدراً يساوي ما تولده مصر سنوياً. وفي نظام الطاقة الصيني لا يمكن لغير المعامل التي تعمل على الحرارة وبواسطة الفحم الاضطلاع، في مدة قصيرة، بزيادة نتاجها بمعدل مئات التيراواطات في الساعة.

واستخراج الفحم وعمليات التحضير له غالباً ما تحتاج إلى كميات ضخمة من المياه. وإن اضطرت الصين إلى زيادة إنتاج الفحم فعليها استنزاف إمدادات المياه الجوفية المحلية. وإلى هذا، وفي مقابل إمكان استخدام مياه البحر للتبريد (تبريد المفاعل) في المناطق الساحلية ثمة معامل حرارية صينية تعمل على الفحم (الحجري) في مناطق داخلية، وتعتمد على الأنهار والبحيرات، أو على إمدادات المياه الجوفية، لذا قد تضطر معامل الطاقة إلى تقليص عملياتها في حال تناقص مياه التبريد، أو في حال منح المزارعين والمدن أولوية الوصول إلى ما تبقى من موارد مائية.

وتدل تحليلاتنا لما يقارب 2000 وحدة من جيل معامل التوليد الحرارية الصينية العاملة على الفحم (بطاقة 300 ميغاواط أو أكثر)، ولوسائل تبريدها المعروفة أو المرجحة، على أن قرابة 500 غيغاواط من طاقتها -أي أكثر من قوة التوليد الكهربائية من الفحم في الهند والولايات المتحدة مجتمعتين- تتهددها مخاطر استفحال الجفاف لفترات طويلة على نحو مطرد.

قطاع الطاقة الصيني الأضخم في العالم تتهدده مخاطر جسيمة جراء شح المياه

تراجع إمكانات نقل شحنات الفحم عبر الأنهار يمكنه كذلك أن يقلص الإنتاج الكهربائي. فخسارة إنش واحد من مستوى المياه في شبكة نهري أوهايو والمسيسيبي في الولايات المتحدة قد يقلص مواكب السفن التي تنقل عوامل إنتاجية من مئات الأطنان.

وتعاني شبكات النقل المائي الصينية على الأرجح مشكلات مماثلة. والمياه الموزعة على مناطق تضم مئات المعامل الحرارية، وهي مياه تجري في آلاف الأميال من المسالك المائية، قد تقلص إذا تراجع منسوبها، كميات الفحم الحجري المتوافرة. وإن احتاجت المعامل الحرارية عند بعض المسالك المائية إلى زيادة نتاجها الكهربائي والتعويض عن خسائر في النتاج الهيدروليكي في مواضع أخرى، تهدد المعامل هذه خطر حقيقي ناجم عن ضعف القدرة على إيصال الفحم إلى المكان الضروري في الوقت المناسب، وبالكميات المطلوبة لتوفير إمدادات كهربائية مستقرة.

وفي هذا السياق يؤثر تعرض قطاع الطاقة الصيني للقصور مباشرة في سلاسل الإمداد العالمية. فما تستهلكه المنشآت الصناعية في الصين يقدر بأكثر من 65 في المئة من مجمل استهلاك الكهرباء في البلاد. وقد يضطر المسؤولون الحزبيون في سبيل تقليص التأثير المباشر في السكان لظاهرة الانقطاعات الكهربائية الواسعة، والخارجة عن السيطرة، إلى حده الأدنى، إلى إغلاق منشآت صناعية عديدة وتخفيف الضغط عن الشبكة، مثلما فعلوا في أزمة الكهرباء عام 2021.

وقطع الكهرباء بموجب قرارات رسمية يعرقل عدداً من إمدادات بعض المواد الأساسية. فالصين هي أكبر منتج عالمي للألمنيوم، والسيليكون الحديدي، والرصاص، والمانغنيز، والماغنيزيوم، والزنك، ومعظم المعادن الأرضية النادرة، وغيرها كثير من المعادن والمواد المخصصة لصناعات محددة.

وقصور الطاقة، وإن في منطقة صينية واحدة، يمكنه التأثير في الأسواق العالمية، على ما حصل مع صناع السيارات الأوروبيين في أواخر عام 2021، عندما أدى القصور في الطاقة الكهربائية إلى تقليص عمليات صهر الماغنيزيوم في إقليم شانزي، مصدر 50 في المئة من النتاج العالمي لتلك المادة، وحين انخفض وتقلص مخزون الماغنيزيوم حلقت الأسعار سبع مرات أعلى من مستواها السابق في مطلع السنة (الراهنة). ودعا المستهلكون الصناعيون الأوروبيون إلى ضمان استمرار الإمدادات.

كذلك يمكن للمشكلات الدائمة في قطاعي المياه والكهرباء في الصين أن تعرقل التحوّل العالمي نحو الطاقة النظيفة. فالصين تنتج النسبة العظمى من “البوليسيليكون” المستخدم في صناعة الخلايا الشمسية، والمعادن الأرضية النادرة المستخدمة في توربينات (محركات) الهواء حول العالم. وتهيمن الصين على عمليات تنقية المواد الخام، وإنتاج الخلايا لبطاريات المركبات الإلكترونية.

نفاد الخيارات

وكما لاحظ الدبلوماسي البريطاني السابق والخبير في الشؤون الصينية، تشارلي بارتون، عام 2018، فإنه “بوسع الصين طباعة النقود، لكن ليس بوسعها طباعة المياه”. والسبيل المحتمل الذي يمكن أن تنتهجه الصين للخروج من هذا المأزق تحفه ضوابط اقتصادية ومادية وسياسية صعبة.

وعملية الإصلاح الأكثر دراماتيكية وتماسكاً هي تشجيع الكفاءة من طريق رفع ثمن المياه، لكن هذا لن يكون سهلاً، لأن عمال قاعدة الإنتاج الصناعي الصيني الثقيل والمكثف، شأن المزارعين في المناطق الريفية، معتادون على المياه الرخيصة.

وعلى الرغم من استئثار الزراعة بأكثر من 60 في المئة من المياه الصينية المستهلكة، فمساحة معظم المزارع لا تتخطى ثلاثة هكتارات (متوسط مساحة كل مزرعة)، بالتالي قد تعجز المزارع الصغيرة والمتوسطة الحجم، وهي تعمل بهوامش ربح صغيرة، عن تحمل كلف تجهيزات المياه، مثل أجهزة الري القطري (أو الري بالتنقيط).

وفرز الحيازات الزراعية وضمها مسألة سياسية حساسة، وقد تبقى على الأرجح عديمة الفاعلية، إذ إن رد الفعل القاصر على معاناة المزارعين الصينيين الشماليين من تراجع إمدادات المياه اقتصر على الدعوة إلى حفر آبار أعمق، وتركيب مضخات أقوى، وهذا رد لن يؤدي فعلاً إلا إلى تفاقم الأزمة وتسريعها.

ويمكن للحكومة الصينية أن تسعى في تغيير عادات المستهلكين (مستهلكي المياه) بواسطة الإقناع. ولو نظرنا إلى عام 2016 لوجدنا بكين تشجّع مواطنيها على التخلي عن أكل الرز الذي يتطلب استهلاكاً كثيفاً للمياه، والتحول إلى المحاصيل التقليدية الأخرى، كالبطاطا، وهي التي لا يتطلب إنتاجها كميات مياه كبيرة، بيد أن المسؤولين لم يبذلوا جهوداً كافية لتعزيز حملات كهذه. ويدحض هذا سردية الحزب الشيوعي الصيني المفضلة عن التقدم الاقتصادي، ورفع مستويات العيش، والقرينة عليهما ارتفاع استهلاك السلع والخدمات.

ولا شك في أن من أيسر الأمور على الحكومة منع المواطنين من القيام بأمور تعتبرها غير مرغوبة، على خلاف حملهم على القيام بأمور ترغب فيها، مثل إنجاب مزيد من الأطفال، ومسايرة طموحات استهلاكية، وأكل البطاطا الموفرة للمياه.

بوسع الصين طباعة النقود لكن ليس بوسعها طباعة المياه

قد ينحو قادة الصين المركزيون والمحليون إلى حلول ناجمة عن العرض (أي من الواقع الراهن)، لكن هذه الحلول تفتقر إلى الفاعلية في مواجهة تحدي المياه الخطير الذي تواجهه البلاد. و”أقنية دوجيانغين للري”، وهي تعود إلى 2200 سنة في سيشوان، ولا تزال صالحة، شهادة حية على تاريخ الصين المديد كقوة عظمى عالمية في الهندسة الهيدروليكية، وتدل على التركيز على تدابير العرض لمعالجة أعراض قصور مياه بنيوي.

و”مشروع تحويل المياه من الجنوب إلى الشمال” يهدف إلى تحويل ما يقدر بـ21 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، من حوض نهر يانغتزي في عام 2030. وهو مصمم لتخطي ضعفي هدفه الأولي في ما بعد. إلا أن هذا المشروع لن يقترب من ردم فجوة الإمداد التي يعانيها شمال الصين. والشاهد على هذه الفجوة الخطط التي أعلن عنها في الآونة الأخيرة، والهادفة إلى جر المياه من “سد الوديان الثلاثة” في إقليم هيوباي إلى بكين. وجر المياه من مناطق أبعد، مثل سهل التيبت أو بحيرة بايكال في روسيا، يبدو صعباً من الناحية الجيولوجية وباهظ الكلف وغير ممكن سياسياً.

ومن ناحية أخرى قد تكون تحلية المياه حلاً ممكناً من بين حلول “جانب العرض”، لكن عمليات التحلية بالمعدل الذي تحتاج إليه الصين لسد حاجتها المائية مهمة عملاقة وجبارة. فمعامل التحلية المنتشرة في العالم، ويبلغ عددها تقريباً 20 ألف معمل، يمكنها إنتاج قرابة 36.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.

وهذه الكمية لا تبلغ سوى ستة في المئة من استهلاك الصين السنوي للمياه، الأمر الذي يبرز صعوبة الاعتماد على عمليات التحلية لسد عجز الصين المائي الذي يقدر بـ25 في المئة من مجمل حاجتها. وإلى هذا، تستهلك عمليات تحلية المياه طاقة كثيفة، في وقت تعاني فيه الشبكة الكهربائية الصينية الإجهاد في سبيل المحافظة على وتيرة الإنتاج. وتعني كثافة الطاقة المطلوبة في عمليات التحلية أن كلفة هذه العمليات أبهظ من كلفة إمدادات أخرى، وذلك ربما بمعدل عشرة أضعاف.

وحينها سيواجه المسؤولون الحزبيون خيار دعم تكاليف المياه، أو القبول بتغييرات أساسية (تؤدي إلى اضطرابات سياسية على الأرجح) في التوقعات الصناعية والاستهلاكية التي يبلغ عمرها عقوداً من السنين، التي أسست على مبدأ سهولة الحصول على المياه بثمن زهيد.

اقتضى إنشاء سلاسل الإمداد التي تقوم الصين في قلبها عقوداً وليس في المستطاع اليوم تحريكها ونقلها بيسر إلى مكان آخر. وهذا الأمر سبب إضافي يدعو الحكومات الصينية إلى التحرك الآن، وإلى تهيئة الأسواق العالمية الرئيسة للتعامل مع أزمة مياه طويلة الأمد في الصين. على أن تجارب الماضي ليست دليلاً في هذه المسألة اليوم: فعندما عانت الصين جفافاً واسع النطاق وامتد لسنوات، في 1876 و1928، لم تكن بعد “مصنع العالم”.

وليست سلاسل الإمداد العالمية اليوم مهيأة لجفاف يضرب الصين، ويخل بنظام تجارة الحبوب، وبإنتاج المواد الصناعية الأساسية عبر القارات المتعددة. وإذا استمرت الصين في استغلال المياه الجوفية على نحو مفرط، وفي خضم تقلبات المناخ القاسية، اقتربت عاماً بعد عام من وقوع كارثة مائية، ويستدعي هذا اتخاذ خطوات فعالة قبل فوات الأوان.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى