الصراع على الفضاء بين القوى العظمى
كتبت د. آمال مدللي في صحيفة الشرق الأوسط.
سنة 2023 لن يذكرها التاريخ بالحروب والألم الذي تركته خلفها فقط. هذه السنة المؤلمة كانت سنة تاريخية للفضاء والقمر بشكل خاص، على أمل أن يتم ذكرها يوماً بأنها حملت وعداً إيجابياً للفضاء ولسعي البشرية إلى السفر إليه والعيش فيه، وليس بدايةً لاستخدامه مجالاً للنزاع والقتال.
هذه السنة أصبحت الهند الدولة الرابعة التي هبطت على سطح القمر، والأولى التي تهبط على القطب الجنوبي للقمر الذي يُعتقد أنه يحتوي على المياه، مصدر الحياة والنجاة عبر استخدام مياهه، ليس للشرب فقط، وإنما استخدام الهيدروجين والأكسجين فيها وقودًا للصواريخ التي تعيد زواره إلى الأرض أو تحملهم إلى المريخ.
وكانت هذه أيضاً السنة التي فشلت فيها روسيا في هبوط مركبتها على سطح القمر، منذرة بتراجع دورها في الفضاء بعدما كانت الأولى في التاريخ، وبدأت عصر الفضاء مع «سبوتنيك» ومع رائد الفضاء يوري غغارين الأول الذي ذهب إلى الفضاء وأشعل فتيل سباق أميركي- سوفياتي محموم للوصول إلى القمر، وهبوط روادها عليه، معلنين ذلك خطوة صغيرة للإنسان وقفزة عملاقة للإنسانية، التي لفظها نيل آرمسترونغ.
كما أن عدد الدول المهتمة بالفضاء يتضاعف، حيث هناك اليوم 77 وكالة فضاء وطنية في العالم، وازداد عدد الدول التي انضمت إلى برنامج الفضاء الأميركي «آرتيمس» الذي حل مكان برنامج «أبولو» والمكوك الفضائي إلى 33 بلداً. وهناك 80 دولة لديها أقمار صناعية في الفضاء (وصل عددها هذه السنة إلى 7702 قمر).
وهذه السنة كانت مفصلية لجهة تثبيث دور القطاع الخاص في الفضاء واقتصاد الفضاء؛ إن لجهة تعاظم حجم هذا الاقتصاد (يقدر تقرير الفضاء بأن اقتصاد الفضاء الذي نما بنسبة 91 في المائة في العقد الأخير، من المتوقع أن يصل حجمه إلى 800 مليار دولار خلال خمس سنوات). وهذا النمو يعود بشكل رئيسي لنمو قطاع الاتصالات ولعبه دوراً أكبر في مجالات كانت في السابق حكراً على الدول، مثل «ستار لنك»، والجدال حول الدور الذي يمكن أن تلعبه شركات الأقمار الصناعية الخاصة في النزاعات. ففي بداية السنة المقبلة ستحاول شركتان أميركيتان من القطاع الخاص الهبوط على القمر فتكونان أول شركتين من القطاع الخاص تحققان هذا الإنجاز.
ودور القطاع الخاص مرحب به من قبل المتحمسين لنمو اقتصاد الفضاء والإمكانات الهائلة التي يعدها، إلا أن الكثيرين يحذرون من فوضى فضائية في غياب أي قواعد تحكم دور هذا القطاع، خصوصاً أن معاهدة الفضاء الخارجي التي وقعت عام 1967 في إطار الأمم المتحدة التي ترعاها، عفى عليها الزمن ولا تغطي الكثير من النشاطات الفضائية الحالية، لأن التكنولوجيا الحديثة أدخلت عوامل جديدة إلى الفضاء لم تكن موجودة منذ نصف قرن.
وممَّا يعقد الأمور أكثر أن التنافس الصيني الأميركي حول كل شيء، بما فيه الفضاء، يخلق بيئة أمنية جديدة في الفضاء، ويهدد بجعل الفضاء ليس مجالاً للتنافس الاستراتيجي فقط، وإنما يخلق مخاوف من أن يصبح الفضاء مجالاً حربياً بين القوتين الأكبر الآن في العالم.
أسباب هذا التخوف عديدة، لكن أبرزها صعود أسهم التنافس على موارد الفضاء، خصوصاً القمر والكويكبات الأخرى الغنية بالموارد الثمينة والمعدنية الضرورية للاقتصاد الأخضر مثل تلك التي تستخدم في المركبات الكهربائية ولا تستخدم الوقود.
ومع أن معاهدة الفضاء الخارجي تحظر مصادرة الفضاء الخارجي من قبل أي جهة أو ادعاءها السيادة عليه أو استخدامه أو احتلاله أو عبر أي وسائل أخرى، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تغييرات في الدول التي تملك القدرة على الوصول إلى هذا الفضاء وإلى القمر، تدعو إلى القلق الشديد من أننا نرى زرع بذور النزاع وربما الحرب في الفضاء وعلى القمر، بعدما جعلنا الأرض أرض حرب وليس أرض سلام وتعاون.
إن كلاً من الصين والولايات المتحدة، وبالرغم من قولهما إنهما تريدان الاستكشاف السلمي للفضاء، يقومان باتخاذ سياسات وخطوات في الفضاء تشير إلى بدء سباق اقتصادي وعسكري في الفضاء الخارجي.
فالصين مثلاً أعلنت أنها سوف تبني بالتعاون مع روسيا قاعدة على سطح القمر للأبحاث. الولايات المتحدة تؤكد أنها ستبقى الرائدة الأولى في الفضاء ولديها أيضاً خطتها لبناء قاعدة دائمة على سطح القمر في القطب الجنوبي أيضاً مثل الصين، وهو المكان الذي اختارته الهند لهبوط مركبتها على سطح القمر، هذا القطب يعتقد أنه غني بالمياه المتجمدة الضرورية للحياة. وعبرت الولايات المتحدة على لسان مدير وكالة «ناسا» الفضائية بيل نيلسون عن تخوفه من أن الصين تريد أن تصادر مناطق غنية على القمر لنفسها. الصين وروسيا توجهان الاتهام نفسه للولايات المتحدة، وتقولان إن تحديد مبادئ اتفاق «آرتيمس» الفضائي الأميركي لمناطق «آمنة» لها ولحلفائها على سطح القمر غير مقبول ويتعارض مع معاهدة الفضاء الدولية.
الولايات المتحدة أيضاً أصدرت قوانين مثل قانون 2015 الذي يعطي القطاع الخاص الأميركي الحق في استخراج الموارد في الفضاء والاستفادة منها تجارياً، مما عدّه كثيرون خرقاً أيضاً لمعاهدة الفضاء. لكن المدافعين عن هذا القانون يرون فجوات في هذه المعاهدة تسمح بتفسير مختلف.
إن التغيير الأكبر في السياسة الفضائية الأميركية أتى خلال إدارة الرئيس دونالد ترمب الذي أصدر قراراً تنفيذياً قبل مغادرته الحكم يقول فيه إن الولايات المتحدة لا تعدُّ الفضاء «مشاعاً عالمياً»، أي أنه للبشرية جمعاء كما تقول معاهدة الفضاء الدولية. ومع ذلك أكد القرار التنفيذي التزام الولايات المتحدة بالمعاهدة، وقال إن القرار يعتمد على «نية الكونغرس» منح الأميركيين الحق في الاستكشاف التجاري واستخدام مصادر الفضاء الخارجي، تماشياً مع القوانين المرعية. وإدارة الرئيس بايدن ملتزمة السياسة نفسها.
وأسس الرئيس ترمب «قوة الفضاء»، وأعلن وزير التجارة في حكومته ويلبر روس «أننا نريد أن نحول القمر إلى محطة وقود للفضاء الخارجي».
الهند أيضاً لديها خطط لاستخراج مادة «الهيليوم 3» الموجودة بوفرة على سطح القمر، التي تستخدم لاستخراج الطاقة لتحل مشكلة الطاقة في الهند، حيث قالت صحيفة هندية إن طناً من «الهيليوم 3» سوف يوفر الطاقة للهند لسنة كاملة. إن من يسيطر على هذه الطاقة على القمر يسيطر على سوق الطاقة على الأرض، الهند تنوي إنتاج الطاقة على القمر وبثها إلى الأرض. وكذلك أيضاً خطط الصين للطاقة في الفضاء، حيث تنوي بناء محطات فضائية لتوليد طاقة شمسية على بعد 36000 كلم من سطح الأرض وإرسالها إلى الأرض عبر الميكروويف أو الليزر. إن التنافس في البرامج الفضائية لم يعد حول خطوات للإنسانية كما في السابق، لقد أصبح لأسباب تجارية وتنافس استراتيجي وربما يوماً اقتتال حول هذه الموارد. ولم نتحدث بعد عن عسكرة الفضاء، والازدحام في الفضاء بالأقمار الصناعية وارتفاع خطر الاصطدام، واكتظاظ الفضاء بحطام الأقمار الصناعية القديمة أو المفجرة، وخطرها، وتلوث القمر بالمركبات الفضائية وما حملته معها بدون الإعلان عنه. إن الفضاء ليس بخير، كما الأرض. إن الفضاء بحاجة إلى قوانين تحميه وتعديل المعاهدة الحالية، أو التوصل إلى معاهدة دولية جديدة، مع صعوبة ذلك في الجو العالمي الحالي، تأخذ بعين الاعتبار التطورات التكنولوجية والتقدم الذي حصل في القانون الدولي وقانون الفضاء.