رأي

السودان وطن يقاوم القبح بالجمال

كتب د. عبدالمنعم همت, في “العرب” :

الإسلام السياسي حيثما حل كان دوما نقيضا للإبداع فهو دعوة إلى الموت بينما الفن دعوة إلى الحياة، لم يكن في صفوفهم شاعر حر ولا موسيقي مبدع ولا روائي جريء.

كلما اشتد عود الدكتاتوريات، وتعاظمت ظلال الإسلام السياسي، تسارعت محاولات تجفيف منابع الجمال، تلك المنابع التي لطالما كانت ملاذا للإنسان في أشد الظروف قتامة. إن أول سلاح يشهره الطغاة ليس السيف، بل مصادرة الفكر، ووأد الخيال، وإحكام القبضة على الأذهان قبل الأجساد. يُشغل الناس بمعايشهم، يُدفعون إلى العمل المضني من الفجر إلى المغيب، ليعودوا إلى منازلهم منهكين، عاجزين عن التفكير، مستسلمين لواقع يُصاغ لهم دون أن يكون لهم رأي فيه.

غير أن السودانيين، عبر تاريخهم الطويل، عرفوا كيف يقاومون هذا القبح بصناعة الجمال. كانوا وما زالوا أبناء الكلمة، رواد الأغنية، مبدعي القصيدة، وحاملي راية التنوير في وجه ظلام الاستبداد. لم يكن أدب المقاومة في السودان مجرد وسيلة لتسجيل المواقف، بل كان نبعا دافقا من الجمال النقي الذي استطاع أن يتحدى الاستعمار البريطاني، ثم واجه بصلابة الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة، كاشفا زيفها، ومبشرا بأمل لا يخبو مهما اشتدت العتمة.

◄ ما لا يدركه إسلاميو السودان أن الجمال لا يموت وأنه قادر على التسلل عبر الشقوق الضيقة لجدران السجون وعلى النمو في أكثر الأراضي قحطا، فالموسيقى لا تحاصر والكلمة الحرة لا تكتم

لكن ما إن ترسّخت أقدام دعاة الهوس الديني، حتى سعوا إلى خلق معادل عكسي لهذا الإرث العظيم. حاولوا فرض نمط من الفن مسلوب الروح، لا يحمل مضامين، لا يحرّض العقل على التفكير، ولا يُثير في النفس سؤالا أو رؤية. أرادوا تحويل الغناء إلى أداة إلهاء، لا أداة وعي، فشجّعوا الفن السطحي الذي لا يقول شيئا، وحاربوا الشعراء والمبدعين، حتى صار كل صاحب قلم مستهدفا، وكل صاحب صوت معرضا للإقصاء أو القمع.

لم يكن ذلك عبثا، فالإسلام السياسي، حيثما حلّ، كان دوما نقيضا للإبداع. فهو دعوة إلى الموت، بينما الفن دعوة إلى الحياة. لم يكن في صفوفهم شاعر حر، ولا موسيقي مبدع، ولا روائي جريء، لأن منطقهم قائم على القمع والمنع، لا على الانطلاق والتحرر. كيف يمكن لمن يحارب الجمال أن يكون جزءا منه؟ كيف لمن يفرض الوصاية على العقول أن ينجب فكرا حرا؟

في السودان، حيث تلتقي الثقافات وتتلاقح الحضارات، ظلّ المبدعون في طليعة من يواجهون مشاريع الاستبداد. فقد أدركوا أن القهر لا يُهزم بالسلاح وحده، بل يُهزم بالمفردة التي تُلهب الوجدان، بالأغنية التي تسري في العروق كنسيم الفجر، باللوحة التي تجعل العين ترى العالم كما لم تره من قبل.

إن الحرب ليست مجرد معركة تخاض في ساحات القتال، بل هي معركة يومية تخاض في اللغة، في الفكرة، في الأغنية، في الرؤية التي يحملها الإنسان للحياة. ولهذا، فإن من يريد فرض ثقافة الحرب والعنف، لن يجد أخطر عليه من شاعر ينشد الحرية، أو فنان يحلق بأجنحة الجمال بعيدا عن قيود الاستبداد.

لقد وعى الإسلاميون في السودان أن المبدعين هم الخطر الحقيقي على مشروعهم الظلامي، فهم من يُذكّرون الناس بأن الحياة أوسع من دائرة القمع، وأن الإنسان لم يُخلق ليكون مجرد تابع يُنفذ الأوامر، بل ليكون كائنا حرا، قادرا على السؤال، على الحلم، على تجاوز الحدود المفروضة عليه. ولذلك سعوا إلى تدمير هذا الإرث العظيم، حاولوا أن يطفئوا أنوار المسرح، أن يخرسوا أصوات المغنين، أن يحولوا الإبداع إلى جريمة، والتعبير إلى تهمة.

◄ السودانيون، عبر تاريخهم الطويل، عرفوا كيف يقاومون هذا القبح بصناعة الجمال. كانوا وما زالوا أبناء الكلمة، رواد الأغنية، مبدعي القصيدة، وحاملي راية التنوير في وجه ظلام الاستبداد

لكن ما لا يدركه هؤلاء، أن الجمال لا يموت، وأنه قادر على التسلل حتى عبر الشقوق الضيقة لجدران السجون، وعلى النمو حتى في أكثر الأراضي قحطا. فالموسيقى لا تُحاصر، والكلمة الحرة لا تُكتم، والشاعر الذي يُمنع من الكتابة، يجد طريقه إلى الأغاني والقلوب والهواء.

لقد حاولوا أن يجعلوا من المجتمع ساحة معركة دائمة، أن يُحيلوا الأفراد إلى جنود في حرب لا تنتهي، أن يُصادروا لحظات الفرح، ويُفسدوا طعم الحلم، لكن السودانيين، بطبيعتهم التي تأبى القبح، ظلوا يقاومون، يحتفلون بالحياة رغم كل شيء، يُغنون رغم الجراح، يُنشدون الأمل وإن ضاقت الأرض بهم.

إن محاربة الظلام لا تكون بالانجرار إلى ميادينه، بل تكون بتعزيز قيم النور. فالإبداع، في جوهره، فعل مقاومة، وكل قصيدة تُكتب، كل أغنية تُغنّى، كل لوحة تُرسم، هي في حد ذاتها هدمٌ لجدار القمع، ونقضٌ لعقيدة العنف.

فلنحاربهم بالجمال، فهو السلاح الذي لا يدركون كنهه، ولنزرع بذور الإبداع في كل أرض، لأنها وحدها القادرة على أن تُزهِر يومًا، رغم كل ما يحيط بها من قبح. ولنحمل إرثنا الإبداعي كما يحمل الجندي سلاحه، لا لنقتل به أحدا، ولكن لنمنح به الحياة معناها الأجمل.

هؤلاء لهم قلوب، لكنهم لا يعقلون بها، ولهم عيون، لكنهم لا يُبصرون بها. فلا سبيل إلى هزيمتهم إلا بفتح الأعين المغلقة، والعقول المأسورة، حتى يدرك الناس أن ما يُصادرونه ليس مجرد فن، بل هو الحياة نفسها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى