الزيادات تهرول على الرواتب والأجور وراء قطار الأسعار والمحطة تبتعد أكثر فأكثر
في الوقت الذي تجاوز فيه سعر صرف الليرة مقابل الدولار 46 ألف ليرة، تتحضر لجنة المؤشر إلى إقرار زيادة جديدة على أجور مستخدمي القطاع الخاص. ومن المتوقع أن يرفع أساس الأجر من 2.6 مليون ليرة إلى 4.5 ملايين ليرة. على أن تعطى هذه الزيادة كمساعدة من خارج الحد الأدنى الرسمي للأجور، الذي ما زال محتسباً على أساس 675 ألف ليرة، بحسب “نداء الوطن”. وعلى هذا الأساس تكون الأجور في القطاع الخاص قد خضعت منذ بدء الإنهيار إلى 3 زيادات. الأولى بقيمة مليون و325 ألف ليرة، أعطيت في نيسان 2022. الثانية بقيمة 600 ألف ليرة، أعطيت في حزيران 2022. والثالثة على الطريق.
وحمل العام 2022 زيادات على بدل النقل اليومي على 3 مراحل، ليصل اليوم إلى 95 ألف ليرة. حيث اتخذ القرار في نهاية العام الماضي بزيادة بدل النقل اليومي من 8000 ليرة إلى 24 ألفاً. لم يلبث أن عُدّل القرار من مجلس الوزراء بعد نحو شهر واحد فقط، وجرى رفع بدل النقل إلى 65 ألف ليرة. ليتبعهما في آب الفائت زيادة جديدة إلى 95 ألف ليرة. ومن المنتظر أن يرفع بدل النقل مع مطلع العام إلى 125 ألف ليرة. وعليه فان إقرار الزيادات الموعودة على الأجر سيصبح متوسط الدخل في القطاع الخاص بحدود 11 مليون ليرة.
اللافت أنه بالتزامن مع الزيادة الثانية على الأجور في شهر حزيران الفائت كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة يعادل 28 ألف ليرة. ما يعني أن الحد الأدنى بقيمة 2.6 مليون ليرة كان يساوي 92 دولاراً. إلا أنه بعد أقل من 6 أشهر ارتفع سعر الصرف إلى 46 ألف ليرة، وأصبح الحصول على نفس الكمية من الدولارات يتطلب دفع ما يعادل 4.3 ملايين ليرة. هذا المنطق الذي قد يكون اعتمد لرفع أساس الأجر إلى 4.5 ملايين ليرة، لن يجدي نفعاً. فلن تطول الأيام حتى يأكل التضخم الناجم عن انهيار الليرة، بشقيه العادي والاستباقي، هذه الزيادات، ونضطر إلى إضافة زيادة مرة جديد على الاجور»، يقول عضو لجنة المؤشر د. أنيس بودياب، ل”نداء الوطن”.
ذوبان الزيادات: صحيح أن الزيادات بالليرة على الرواتب والاجور في القطاع الخاص لا تؤثر على زيادة الأسعار، خصوصاً في الإقتصاديات الطبيعية، إلا أن غياب المؤسسات المالية وتعطل المصارف، يؤديان في المقابل إلى توسع الاقتصاد النقدي. وبالتالي فان «فائض الأرباح الذي يتحول إلى عملة أجنبية لا يحتفظ بها لتطوير الاقتصاد وزيادة الاقراض للإستثمار، إنما فقط للاستهلاك واستمرار الأمور على ما هي عليه»، بحسب بودياب. و»بالتالي تكمن المشكلة في هذه الزيادة باعادة توزيع الربح التي تقتص فعلياً من الطبقات الأكثر هشاشة. ذلك أن التضخم ضريبة تنازلية الطابع تدفعها الفئات الأفقر والأكثر هشاشة، والتي تملك متوسط مداخيل محدودة غير مرتبطة بانتاجية العمل».
تعطّل المصارف يزيد الأمور سوءاً: عنصر آخر لا يقل أهمية لانعكاس الزيادات، يتمثل في القيود المصرفية. فالمصارف تمنع مؤسسات القطاع الخاص من استعمال أرصدتها لتسديد مصاريفها التشغيلية. وهي تلزمها من خلال العمولات الكبيرة التي تفرضها على عمليات التحويل إلى اعتماد حل من اثنين: إما الإتيان بالاموال النقدية إلى المصرف من أجل اتمام عمليات التحويل، وإما الدفع النقدي. وفي الحالتين يتوسع الاقتصاد النقدي. وبحسب بودياب فان «الكتلة النقدية بالتداول M1 تصبح أكبر بكثير من M2. فالمصارف عاجزة عن خلق النقد الحسابي، ويتم الاعتماد على العمليات النقدية التي تؤدي إلى هذا التضخم الكبير. والأخطر أن المسار النقدي الذي يسير به الاقتصاد قد يؤدي لاحقاً إلى الخروج الكامل عن النظام المالي العالمي، نتيجة فقدان السيطرة، وارتفاع معدلات تبييض الأموال. وفيما الاقتصاد يتخبط يمنة ويسرة، يظهر أن المصارف مرتاحة على وضعها. فهي تذيب الودائع بالليرة (بنسبة 25 في المئة)، والدولار (بنسبة 70 في المئة) وتقلص خسائرها، حتى أن بعضها يحقق الأرباح من هذه العمليات.
حل موقت أكثر عدالة: من الممكن الاستنتاج أنه على الرغم من إمكانية عدم تأثير الزيادة في أجور القطاع الخاص على التضخم، إلا أن آثارها لن تكون إيجابية على العمال نتيجة استمرار الرواتب بالذوبان. وفي جميع الحالات تعتبر هذه الزيادات غير عادلة، وتأتي بعدما تكون الأجور قد خسرت الكثير من قيمتها على مدار أشهر. والحل المؤقت الأكثر عدالة بالنسبة للعمال برأي بودياب هو بـ»اضافة زيادات شهرية منتظمة على أجور القطاع الخاص، من دون تسميتها «سلم متحرك للأجور»، لان هذا المصطلح «بنقّز» أصحاب المؤسسات الخاصة. وعليه يمكن إضافة مكون جديد في الراتب الأساسي المحدد بـ 2.6 مليون ليرة، يسمى مثلاً تحسين القدرة الشرائية، ويدفع شهرياً بشكل مواز مع متوسط التغير في سعر الصرف على مدار الثلاثين يوماً. إلا أن هذا الطرح، جوبه برفض الهيئات الإقتصادية لاعتبارها أن الزيادات الدورية لا تربط بالتضخم إنما بالنمو المحقق. وطالما البلد عاجز عن تحقيق النمو لا يمكن تثبيت الزيادات على الرواتب والأجور.
الحل طويل المدى لحماية الرواتب: أما بالنسبة إلى الحل الدائم فلا يتم تحفيز النمو، وكسر الحلقة المفرغة التي دخل فيها الاقتصاد. ولتحفيز النمو نحتاج، برأي بودياب، «إلى قواعد اقتصادية قوية، وإعادة بناء بيئة استثمارية صحيحة، وانتظام العمل المؤسساتي وقضاء مستقل. وهذه العوامل لا يمكن تحقيقها من دون تأمين الإستقرار في سعر الصرف، والدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي، خصوصاً أن حجم الأزمة لم يعد مقتصراً على الزيادة أو النقصان في الكتلة النقدية إنما بمشاكل بنيوية أكثر خطورة لم تعد الحلول النقدية تجدي معها نفعاً».
في الوقت الذي تهرول فيه الزيادات على الرواتب والأجور وراء قطار الأسعار تبتعد المحطة أكثر فأكثر. فالأجر المتناسب مع نسب التضخم لا يمكن تحقيقه من دون إصلاحات اقتصادية جوهرية بعيدة كل البعد عن الحسابات الورقية.