الحرب في غزة أبدية

كتب عاموس هرئيل, في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية:
القادة في “إسرائيل” وأميركا ليس لديهم حافز كبير لإنهاء الحرب على قطاع غزّة.
بعد أقل من شهرين من التزامه بوقف إطلاق النار التدريجي في قطاع غزة، استأنف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحرب على قطاع غزة. في 18 آذار/مارس، قُتل أكثر من 400 فلسطيني، بينهم أكثر من 300 امرأة وطفل، وهي حصيلة كارثية حتى بمعايير الحرب السابقة. سمحت الهدنة قصيرة الأمد بالإفراج عن 30 أسير إسرائيلي، بالإضافة إلى إعادة رفات ثمانية أسرى آخرين. في الأسبوع الماضي، اقترحت الحكومة الإسرائيلية استئناف وقف إطلاق النار مقابل إعادة 11 أسير إضافياً و16 جثة أخرى.
حتى لو توصلت حماس وإسرائيل إلى اتفاق جديد قصير الأجل لوقف الأعمال العدائية، فمن غير المرجح أن تشهد غزة سلاماً حقيقياً في أي وقت قريب. منذ 7 أكتوبر، سعى نتنياهو لتحقيق هدفين من خلال عملياته العسكرية في القطاع: تحرير جميع الأسرى والقضاء على حماس. لكن هذين الهدفين لا يمكن تحقيقهما في آن واحد: فحماس ترفض قبول عملية سلام تتضمن القضاء عليها، وطالما التزمت “إسرائيل” بهذه النتيجة، فإنّ قادة حماس الباقين على قيد الحياة لديهم حافز قوي للاحتفاظ بالأسرى لردع الهجمات الإسرائيلية.
هذا يعني أنه حتى لو استؤنف وقف إطلاق النار، فمن المرجح أن تؤجل حماس إطلاق سراح آخر أسير، ومن المرجح أن تجد “إسرائيل” سبلاً لتجنب المضي قدماً في مراحل تسمح لحماس بالاحتفاظ بالسلطة، وقد ينهار أي اتفاق مرة أخرى في مراحله النهائية.
يعتقد نتنياهو بشكل متزايد أن الأمر بعمل عسكري يؤتي ثماره. وبينما حاول فريق الرئيس الأميركي السابق جو بايدن احتواء التصعيد الإسرائيلي، يحظى نتنياهو بحليف أكثر تساهلاً، وهو الرئيس دونالد ترامب. وفي دلالة على التقارب بين الزعيمين، وأهمية نتنياهو في الحفاظ على دعم ترامب، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى واشنطن يوم الأحد للقاء ترامب للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر. وشعوراً منه بالجرأة، اقترح “الجيش” الإسرائيلي أيضاً خطةً واسعة النطاق لإعادة احتلال غزة، بينما يطرح شركاء نتنياهو من اليمين المتطرف، بجرأة أكبر، اقتراحاً لطرد معظم سكان غزة.
مع ذلك، لا يزال من غير الواضح إلى حد ما ما إذا كان نتنياهو مستعداً لتنفيذ أكبر أحلام شركائه السياسيين. عليه أن يأخذ في الاعتبار موقف ترامب، على الرغم من تقلباته، وما إذا كان “الجيش” الإسرائيلي قادراً على الشروع في عملية مكلفة وطويلة الأمد في غزة.
جرأة كبيرة
عندما شنّت “إسرائيل” حربها على غزة قبل 18 شهراً، كان هناك شبه إجماع بين الإسرائيليين على ضرورة القضاء على حماس. لكن سرعان ما اتضح أن هدفي “إسرائيل” العسكريين؛ تأمين إطلاق سراح الأسرى والقضاء على حماس، لا يمكن تحقيقهما في الإطار الزمني نفسه. حتى لو افترضنا إمكانية القضاء على حماس، فإن ذلك سيستغرق سنوات. مع ذلك، لا يملك الأسرى الإسرائيليون هذا القدر من الوقت. فوفقاً لتحليل أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وأوائل آذار/مارس 2025، قتل 41 أسير في غزة. بعضهم مات جوعاً ومرضاً وقتلاً نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية.
إنّ “إسرائيل” لم تُحقق أياً من هدفيها بعد. منذ بدء الحرب، قتلت “إسرائيل” معظم كبار قادة حماس، بمن فيهم قائد الحركة في غزة، يحيى السنوار، لكن الحركة لا تزال تتمتع بهيكلية حكم. بالنسبة لنتنياهو، فإنّ هذا غير مقبول، وليس هناك سوى خيارين مطروحين: استسلام حماس الكامل وطرد قيادتها من غزة، أو استمرار الحرب حتى يحقق “الجيش” الإسرائيلي. في السيناريو الثاني، من المرجح أن يقتل أسرى إضافيين.
مع تنصيب ترامب، تضاءل أي أمل في أن تدفع الولايات المتحدة “إسرائيل” للالتزام بوقف إطلاق نار دائم. على الرغم من أنّ ترامب ضغط على نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار في كانون الثاني/يناير، إلا أنّ نهج إدارته أصبح أكثر غموضاً منذ ذلك الحين. كل بضعة أيام، يقدّم الفريق الأميركي مقترحات جديدة، لكن المناقشات لا تزال في طريق مسدود؛ ويتنقل ترامب الآن بين عدم الاهتمام بالصراع والأفكار الخيالية، مثل اقتراحه في بأنّ الولايات المتحدة يمكن أن تتولى ملكية غزة وتحويلها إلى “ريفييرا” سياحية.
لم تواجه إدارة ترامب التناقض الجوهري الذي يُؤخر محادثات السلام الجادة، ولم تسعَ إلى حله: يُصرّ نتنياهو على أنّ أي عملية وقف إطلاق نار يجب أن تنتهي بتفكيك حماس. لكن هذا خط أحمر لا ترغب حماس في تجاوزه، مع أنها قد تُفكّر، بحسب التقارير، في التنازل عن سلطتها السياسية مع الحفاظ على قوتها العسكرية. مع ذلك، لم ينجح الأميركيون ولا الوسطاء العرب من مصر وقطر حتى الآن في إقناع قادة حماس بتوقيع اتفاق يُنهي مهمتهم السياسية النهائية: السيطرة على الصراع الفلسطيني ضد “إسرائيل”.
وهناك تطورات أخرى قلّلت من إلحاح سعي نتنياهو للتوصل إلى تسوية؛ فحتى الآن، تعافى “الجيش” الإسرائيلي جزئياً من صدمة السابع من أكتوبر، كما تراجعت قدرة حماس على تنظيم هجوم واسع النطاق آخر أو إطلاق وابل من الصواريخ على الأراضي الإسرائيلية، وتم وقف إطلاق النار في لبنان، بالإضافة إلى سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر، ما جعل “إسرائيل” تسيطر على أجزاء من جنوب سوريا. وعلى خلفية هذه التطورات، يبدو أنّ نتنياهو قد ازداد جرأة.
ورغم أنّ إدارة بايدن وقفت إلى جانب “إسرائيل” بعد 7 أكتوبر وساعدت في منع المزيد من التصعيد الإقليمي، إلا أنها سعت أيضاً إلى احتواء الأعمال العسكرية الإسرائيلية. على سبيل المثال، بعد أن غزت القوات الإسرائيلية مدينة رفح جنوب غزة في أيار/مايو الماضي، وهو عمل حذر منه فريق بايدن، أرجأ الأخير إرسال ذخائر دقيقة ثقيلة وجرافات إلى “إسرائيل”. وقد أزال وصول ترامب إلى البيت الأبيض هذا التوازن. إنّ ترامب يدعم جميع تصرفات “إسرائيل” علناً. وعلى نطاق أوسع، فإنّ الطريقة التي يغازل بها أفكاراً مثل استيعاب كندا وضم غرينلاند تضفي الشرعية على فكرة أنّ الدول القوية يمكنها ببساطة الاستيلاء على أراضٍ من جيرانها. عندما زار نتنياهو ترامب في واشنطن في شباط/فبراير، تساءل الرئيس الأميركي بصوت عالٍ عن سبب عدم استغلال “إسرائيل” للإطاحة بالأسد للمطالبة بمزيد من الأراضي السورية. ناقش نتنياهو لاحقاً مثل هذه الفكرة مع حكومته، على الرغم من أنها لم تكتسب زخماً.
تصدّعات خفية
يبدو أنّ “إسرائيل” في وضع قيادي. في الواقع، في منتصف آذار/مارس، قدّم “الجيش” خطة طموحة للحكومة لإعادة نشر عدة فرق في غزة، وإجراء تعبئة جديدة للاحتياط، وإجلاء سكان شمال غزة إلى منطقة ملاجئ في الجنوب، وإكمال احتلال عسكري للقطاع بأكمله، وكل ذلك في غضون بضعة أشهر. كان رئيس أركان “الجيش” الإسرائيلي السابق، هرتس هاليفي، قد عارض بشدة تشكيل أي حكومة عسكرية إسرائيلية في غزة. لكنه استقال في أوائل آذار/مارس. وقد أشار خليفته، إيال زامير، الذي يتمتع بعلاقات أكثر دفئاً مع القادة السياسيين الإسرائيليين، وبالتالي بحرية أكبر في تنفيذ خططه، إلى انفتاحه على حكم القطاع.
ربما تكون إدارة ترامب قد توقفت عن الحديث عن خطة لإخلاء غزة من سكانها، لكن السياسيين الإسرائيليين اليمينيين تبنّوا القضية، معتبرين اقتراح ترامب بمثابة إذن لمناقشة تشجيع سكان غزة على الهجرة طواعيةً بشكل أكثر صراحة. عملياً، سيتطلب أي مشروع “هجرة طوعية” من هذا القبيل استخدام قوة عسكرية كبيرة لإقناع السكان بالمغادرة. وقد أنشأ وزير الأمن الإسرائيلي إسرائيل كاتس، وهو في الأساس دمية نتنياهو، هيئة إدارية جديدة في وزارته لتشجيع الهجرة.
لكن نقاط الضعف العميقة والتوترات الداخلية تُقيد الحكومة الإسرائيلية. فعلى الرغم من الضربات التي تلقتها حماس، لا تزال بعيدة كل البعد عن الهزيمة. ويقود اثنان من القادة العسكريين الناجين، عز الدين الحداد ومحمد السنوار (شقيق يحيى السنوار)، جهودها للتعافي. وقدّرت “إسرائيل” أنّ حماس جندت في الأشهر الأخيرة نحو 20 ألف مقاتل جديد، وتعمل حماس على إعادة استخدام القنابل الإسرائيلية التي فشلت في الانفجار لتفخيخ المباني والطرق استعداداً لغزو إسرائيلي آخر.
ستؤدي إعادة احتلال غزة إلى خسائر عسكرية إضافية، وربما إلى مقتل المزيد من الأسرى. ووفقاً لاستطلاعات رأي عام لا حصر لها، فإنّ نحو 70% من الإسرائيليين يؤيدون التوصل إلى اتفاق مع حماس لإطلاق سراح جميع الأسرى المتبقين، حتى لو كان ذلك مكلفاً للغاية، مثل إنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة وإطلاق سراح آلاف السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
لكن تنفيذ الخطة العسكرية لاحتلال غزة أو مشروع “الهجرة الطوعية” ينطوي على مخاطر سياسية جسيمة. فقد خدم عشرات الآلاف من جنود الاحتياط العسكريين مئات الأيام لكل منهم خلال الحرب، مما ألحق خسائر فادحة بوظائفهم وعائلاتهم. في الواقع، لم تواجه “إسرائيل” قط هذا القدر من التناقض بشأن الخدمة العسكرية من جانب جنود الاحتياط، ولا حتى خلال حربها المثيرة للجدل سياسياً عام 1982 في لبنان أو خلال الانتفاضة الثانية التي استمرت من عام 2000 إلى عام 2006. يهدد البعض برفض الاستدعاء للخدمة العسكرية خشية أن تؤدي حملة عسكرية جديدة شاملة إلى مقتل المزيد من الأسرى. ووفقاً للعديد من قادة الجيش الإسرائيلي الذين تحدثت إليهم، فإنّ الكثيرين يفكرون في التهرب من الخدمة للبقاء مع عائلاتهم. ويتعلق غضب بعض جنود الاحتياط بسلوك الحكومة خارج غزة، مثل جهودها للحفاظ على إعفاء “الحريديم” من الخدمة العسكرية الإلزامية. ولكن في المقام الأول، فإن جنود الاحتياط الإسرائيليين منهكون.
من وجهة نظر نتنياهو، عليه تأجيل تطبيق أي وقف لإطلاق النار من شأنه أن ينهي الحرب ويقضي على حلم إعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية في غزة لإرضاء حلفائه اليمينيين. لكنه لا يستطيع أن يبدو بنفس حزم هؤلاء الحلفاء بشأن إعادة احتلال غزة بالكامل وإعادة توطين الإسرائيليين هناك. حتى الآن، حقق نجاحاً نسبياً: إذ أدّى إقرار البرلمان الإسرائيلي، في أواخر مارس/آذار، لمشروع قانون الميزانية إلى تجنب خطر انهيار ائتلافه، مما أدّى إلى إجراء انتخابات مبكرة. لكن اجتماعاً لمجلس الوزراء عُقد مؤخراً كشف عن مدى صعوبة الحفاظ على هذا التوازن. بعد أن علّق نتنياهو بأنّ الحكومة تدرس أفكاراً مختلفة لمستقبل غزة، بما في ذلك نقل السيطرة إلى ائتلاف من الدول العربية، استشاطت وزيرة المستوطنات اليمينية المتطرفة، أوريت ستروك، غضباً. وصرخت: “لكن غزة لنا، جزء من أرض إسرائيل. هل ستعطونها للعرب؟”.
الرئيس الأميركي لا يزال يبحث عن خطته الكبرى الخاصة: صفقة أميركية سعودية ضخمة تتضمن تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين “إسرائيل” والسعودية بالإضافة إلى إنهاء الحرب في غزة. في الوقت نفسه، نتنياهو ينوي الاحتفاظ بمنصبه بأي وسيلة ضرورية، وإنّ إبقاء حرب غزة مشتعلة هو أبسط طريقة للقيام بذلك، بغض النظر عن التكلفة طويلة الأجل للاسرى والفلسطينيين والشرق الأوسط و”إسرائيل” نفسها.