الجزائر – فرنسا.. ليتحرر الماضي فيصلح الحاضر
![](https://raiseyasi.com/wp-content/uploads/2024/11/ر4-7-780x470.jpg)
كتب صابر بليدي, في “العرب” :
غلب الشك وغاب اليقين ولذلك تبقى علاقات البلدين متذبذبة ولا شيء في الأفق يوحي بتسوية في هذا المجال حتى إنْ برزت بعض المحاولات من حين إلى آخر.
تبقى العلاقات الجزائرية – الفرنسية استثنائية، نظير ما تحوم حولها من تفاصيل وخصوصيات، ولذلك هي رهينة حالة من الشك المزمن، خاصة وأن ورقة إجهاض دائمة الصلاحية متوفرة وصالحة، فيكفي استحضار ملف التاريخ والذاكرة المشتركيْن من الدرج لإجهاض أي تقارب أو تصفية أي حساب، كما يحدث في الآونة الأخيرة.
فرنسا التي خرجت من الجزائر مهزومة بعد قرن وثلث القرن من البطش والهمجية، لا تريد التسليم بأن رصيدها الاستعماري راكم مشاعر متوارثة عبر الأجيال، وأن المسألة في حاجة إلى جرأة سياسية للاعتراف بالحقيقة، والجزائر التي حققت استقلالا بتضحيات جسيمة لا تريد وضع التاريخ والذاكرة في مكانهما الحقيقي واللازم، وتربطهما دوما بأي شيء يتحرك على المحور الذي يربطها بباريس.
غلب الشك وغاب اليقين، ولذلك تبقى علاقات البلدين متذبذبة، ولا شيء في الأفق يوحي بتسوية في هذا المجال، وحتى إنْ برزت بعض المحاولات من حين إلى آخر، فإن التسوية المعزولة بين رجال السياسة، لن تزيل تلك المشاعر المتوارثة عبر الأجيال، ولا سلوك العجرفة الذي يطبع نخبًا فاعلة داخل المجتمع الفرنسي.
◄ مهما اجتهد الفرنسيون في طمس الحقيقة، لا يمكن حجب وقائع التاريخ، لكن لا هم ولا الجزائريون مجبرين على الخلود في مربع الذاكرة، لأن منطق المصالح المشتركة يفرض الاهتمام بالحاضر والتفكير في المستقبل
كثيرة هي الشعوب والمجتمعات التي سوّت ماضيها المتصادم، بحاضرها القائم ومستقبلها المحتوم، ويتساءل الكثير لماذا لا تعمم التجربة على العلاقات الجزائرية – الفرنسية، فكما استطاع هؤلاء تجاوز تراكمات الحروب والدمار، لفائدة مصالح مشتركة وتعاون مثمر، بإمكان البلدين القيام بنفس التجربة، لكن أين الإرادة السياسية التي بإمكانها تجسيد ذلك؟
فرنسا التي عالجت مشاكلها التاريخية مع محيطها وسياقها، لأجل مشروع قومي أوروبي بدأ باتحادات مهنية واقتصادية، صارت عضوا فاعلا في الاتحاد الأوروبي القائم، وكأنه لا شيء حدث بينها وبين ألمانيا على سبيل المثال، لكنها لم تقم بنفس الخطوة في أفريقيا، أين حافظت على عقيدتها الاستعمارية والاستغلالية إلى أن صار حضورها منبوذا ومرفوضا، وتلك خطيئتها التي تلاحق ساستها الذين لم يفهموا أن العالم يتغير والقيم كل متكامل وليس أجزاء مختلفة بين أوروبا والقارة السمراء.
والجزائر التي خرجت من حقبة استعمارية مدمرة ومنهكة، لم تع أن الاعتراف والتاريخ تصنعهما هي، وليس من خرج مدحورا مهزوما من أرضها، فهي المنتصرة وهي التي تكتب التاريخ، وليس الفرنسيين الاستعماريين، فهم أحرار في صياغة ماضيهم، لكن ماضيها هو الذي يدينه ويخرج حقيقته للعالم كعقدة تؤرق الأجيال وترسم لوحات العار.
الاستقلال السياسي الجزائري، لم يواكبه استقلال اقتصادي واجتماعي وثقافي، رغم مرور أكثر من ستة عقود عليه، ولم يُطرح السؤال المحرج الذي ردده الوزير السابق والسياسي والمفكر نورالدين بوكروح، ومفاده، “إذا قاومنا كشعب كل الاستعمارات التي دخلت بلادنا، فلماذا لم ندون أسباب دخول تلك الاستعمارات إلينا.”
الأكيد كان هناك خلل في كل مرة، وضعف وسوء تدبير سمح لهذا المستعمر أو ذاك بدخول البلاد، وما يتوجب على الجزائر الحديثة هو تلافي تلك الأسباب التي سمحت لفرنسا باستعمارها طيلة 132 عاما، وهو تحقيق الاستقلال الكامل الذي يكفل السيادة ويحقق احترام الآخر بما في ذلك فرنسا.
العلاقات الجزائرية – الفرنسية، في حاجة إلى قراءة ومقاربة جديدة، تقوم على تحقيق التوازن بين الكفتين، ما دام منطق القوي والضعيف هو الذي أدارها طيلة العقود الماضية، ولم يحقق أي نتيجة، وذلك لا يتحقق إلا بالاستقلال الشامل والكامل، وجعل الاستقلال السياسي والتاريخ مكسبا وطنيا ليس في حاجة إلى اعتراف مستعمر الأمس، وأن الشعب الجزائري هو صاحب الشرعية والأحقية في تدوين تاريخه، بلا لجان ولا خبراء ولا مؤرخين آخرين يُستجدى منهم المساعدة على كتابته.
◄ فرنسا التي خرجت من الجزائر مهزومة… لا تريد التسليم بأن رصيدها الاستعماري راكم مشاعر متوارثة عبر الأجيال، وأن المسألة في حاجة إلى جرأة سياسية للاعتراف بالحقيقة
التاريخ والذاكرة المشتركان بين الجزائر وفرنسا، لن يخرجا من التجاذبات السياسية، ما دام الاستئثار بهما من طرف النخب الحاكمة التي تكتب التاريخ ليقرأه الشعب، فتوظفه حينما تشاء وكيفما تشاء، والأجدر هو أن الجزائريين هم الذين صنعوه وهم الذين يكتبونه، ولو كان الأمر كذلك لما سمحت السلطة السياسية السابقة لنفسها، أن تتدخل لتجهض مشروع تجريم الاستعمار الذي قدمه ممثلون عن الشعب إلى البرلمان.
التاريخ ملك الشعب الجزائري، من مجموعة الـ22 التي قررت تفجير الثورة إلى أبسط مناضل كان يجمع الاشتراكات ويستطلع حركة الجيش الفرنسي، والذاكرة المشتركة ملك الأجيال في البلدين، أما النخب الحاكمة فوظيفتها قيادة بلدانها إلى صيانة مصالحها وتطوير علاقاتها وتحقيق التعاون المثمر بين الشعوب والمجتمعات.
المصالح المشتركة بين الجزائر وفرنسا، تصنف في خانة الحتميات. فبلدان يناهز التبادل التجاري بينهما سقف الـ12 مليار دولار، جدير بهما الاهتمام بالحاضر والتفكير في المستقبل، بدل التحجج بالماضي في كل مرة، وعلى النخب الحاكمة أن تترك الفرصة للأجيال لمعرفة وصناعة تاريخها، عوض أن تستأثر به للمزايدة والابتزاز.
صحيح موازين القوى غير متكافئة منذ البداية، لكن بحوزة الجزائر الكثير من الأوراق، وعلى رأسها الجالية المقيمة هناك، فمن غير المعقول أن تستطيع جبهة التحرير التاريخية نقل الثورة المسلحة إلى التراب الفرنسي، وتجنيد الجالية آنذاك من أجل التظاهر والاحتجاج للمطالبة بالاستقلال الوطني وهي على الأراضي الفرنسية، وتعجز مؤسسات الدولة الجزائرية بكل إمكانياتها الآن عن التعبئة المستمرة لجاليتها، لتكون ورقة ضغط وتأثير في القرار الفرنسي.
مهما اجتهد الفرنسيون في طمس الحقيقة، لا يمكن حجب وقائع التاريخ، لكن لا هم ولا الجزائريون مجبرين على الخلود في مربع الذاكرة، لأن منطق المصالح المشتركة يفرض الاهتمام بالحاضر والتفكير في المستقبل، وليبقى لكل ماضيه سواء كان مبعث فخر، أو رمز هوان.