
كتب هشام محمود في ” الجريدة الإقتصادبة ” : عندما ضربت جائحة كورونا الاقتصاد العالمي، توقع عديد من الخبراء المصرفيين الدوليين أن البنوك الآسيوية ستتعرض لضربة مدمرة، لكن مع تراجع الجائحة بات من الواضح أن البنوك الآسيوية لم يكن أداؤها سيئا كما توقع الخبراء، وذلك على الرغم من تعرضها لبعض الخسائر الطفيفة نسبيا.
مع هذا، فقد تغير النظام البيئي المالي بشكل واضح تماما نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، فأسعار الفائدة آخذة في الارتفاع، ومعدلات التضخم تصل إلى مستويات غير مسبوقة، وتضع ضغوطا شديدة على كل من البنوك المركزية والنظام المصرفي كله، يضاف إلى ذلك مواصلة التكنولوجيا الرقمية تعزيز مواقعها، سواء في الاقتصاد والتجارة الدوليين أو في النظام المصرفي وتعاملاته، لتحدث بذلك تحولات جذرية في الهياكل المتعددة للمنظومة الاقتصادية العالمية، وبالطبع تواجه البنوك التقليدية تحديات متزايدة وغير مسبوقة، وفي ضوء تلك التطورات يتجدد السؤال، هل تستطيع البنوك الآسيوية مواجه الأوضاع الجديدة والتأقلم معها؟
ويرى البروفسير جوتام كومرا أستاذ الأنظمة البنكية في جامعة أكسفورد، أن الغرب قاد تطوير الصناعة المصرفية الحديثة في العالم، سواء من حيث الحجم أو معدلات النمو أو نماذج الأعمال والابتكار، ومع ذلك فإن الأعوام الأخيرة شهدت بدايات احتلال آسيا لموقع الغرب المركزي في الصناعات المالية.
وقال لـ”الاقتصادية”، إن “النظام المصرفي الآسيوي يقدم ابتكارات جديدة في الخدمات المصرفية، وهذا لا يعكس الدور المركزي المتزايد للاقتصادات الآسيوية المتنوعة في التجارة العالمية والنمو الاقتصادي فقط، بل يعكس أيضا القيادة الآسيوية المتجددة في توسيع نطاق الأفكار المبتكرة ونماذج الأعمال الجديدة”.
وتكشف تعليقات البروفيسور جوتام كومرا، أن الأسواق الناشئة في آسيا باتت محركا رئيسا للنمو في الخدمات المصرفية العالمية، وبلغة الأرقام تبدو تلك الحقيقة أكثر سطوعا، فنحو 40 بنكا بين أكبر 100 بنك في العالم من حيث الأصول توجد في آسيا، وتشكل تلك البنوك نحو 50 في المائة من القيمة السوقية لأكبر 100 بنك على مستوى العالم.
وفي العقد الأخير، كانت آسيا أكبر سوق مصرفية إقليمية في العالم، حيث حققت أرباحا قبل الضرائب تتجاوز 700 مليار دولار، ومثلت 37 في المائة من مجموع الأرباح المصرفية العالمية في عام 2018، ومع استمرار ارتفاع الدخل في البلدان الآسيوية ونمو الطبقة المتوسط لتشمل ثلثي الأسر الآسيوية، فإن الأصول المالية الشخصية في القارة الصفراء ستبلغ 69 تريليون دولار بحلول عام 2025، أي ثلاثة أرباع الإجمالي العالمي.
باختصار، لم تعد البنوك الآسيوية تلحق بالركب، بل بدأت بتجاوز نظيرتها الغربية من حيث الحجم، لكن تلك الإشادة بالنظم البنكية الآسيوية لا تنفي أنه مع تباطؤ وتيرة النمو والمشكلات الاقتصادية ذات الطبيعة العالمية، فإن البنوك الآسيوية تواجه تحديات خطيرة، تدفعها إلى إعادة هيكلة نفسها لتكون قادرة على المواجهة والمنافسة.
ربما تجد البنوك الآسيوية ضالتها في التكنولوجيا المالية لتظل في مقدمة الركب، يساعدها على ذلك براعة المستهلكين الآسيويين في استخدام التكنولوجيا، ما أوجد فرصا للبنوك لتقديم ابتكارات جديدة تمكنها من مواصلة التقدم للأمام واحتلال الريادة.
ورواد التكنولوجيا المالية الأكثر شهرة في آسيا مثل “وي تشات باي” و”علي باي” يقودون العالم في توسيع نطاق المدفوعات الرقمية، وبينما تمثل المدفوعات الرقمية على المستوى العالمي نحو 45 في المائة من إجمالي المعاملات غير النقدية، وتبلغ تلك النسبة في الصين 99 في المائة، بينما تتزايد الشراكة بين البنوك التايلاندية والإندونيسية مع شركات التكنولوجيا المالية الناشئة لتعزيز المدفوعات الرقمية.
من جانبه، أوضح لـ”الاقتصادية” الخبير المصرفي جويس مولاكيس، أن “النظام المصرفي الآسيوي يتطور بسرعة فائقة لعديد من الأسباب، أولا ارتفاع الدخل في جميع أنحاء آسيا، وسيصل عدد أكبر من المستهلكين الآسيويين إلى أعلى مستويات هرم الدخل، وستكون الحركة داخل الطبقة الاستهلاكية دافعا لتحرك أكبر لنمو الاستهلاك، وهذا التطور يحفز كلا من المستهلكين والمنتجين للاعتماد على نظم بنكية حديثة”.
وأضاف “ثانيا، ستستمر المدن الآسيوية في دفع النمو الاستهلاكي في القارة كلها، والمجموعات التي تقود النمو في المدن الآسيوية مرتبطة بالنظام المصرفي والتكنولوجيا، ومن ثم ستعمل محفزا للبنوك الآسيوية للارتباط بالتكنولوجيا والخدمات الرقمية”.
ومن المتوقع أن يمثل المستهلكون في القارة الصفراء نصف نمو الاستهلاك العالمي في العقد المقبل، أي ما يعادل وفقا لتقديرات الخبراء فرصة نمو قدرها عشرة تريليونات دولار، ومن المتوقع أن تكون واحدة من بين كل اثنتين من الأسر ذات الدخل المتوسط الأعلى وما فوقها آسيوية، وهذا يعني زيادة الاحتياجات المالية في القارة، كما أنها ستصبح أكثر تعقيدا، فالنظم البيئية الرقمية تنتشر في آسيا.
في الوقت ذاته، يثق المستهلك الآسيوي في كل من البنوك والتكنولوجيا في آن، وكشف استطلاع للرأي عن أن البنوك الآسيوية وشركات بطاقات الائتمان ومنصات المحافظ الإلكترونية يتمتعون بدرجة عالية من الثقة بين المستهلكين تصل إلى 75 في المائة، بينما لا تتجاوز الثقة بمواقع التواصل الاجتماعي 55 في المائة.
بدورها، ذكرت لـ”الاقتصادية” ستفيني جيمس الباحثة في مجال الخدمات المصرفية الرقمية، “أثبتت آسيا أنها أرض خصبة لتطوير الخدمات المصرفية الرقمية، ويلاحظ أن الإقبال الجماهيري على الخدمات المصرفية الرقمية دفع عديدا من منصات التكنولوجيا إلى تطوير نشاطها لتصبح بنوكا رقمية، في الوقت ذاته أطلقت البنوك التقليدية بنوكا رقمية قائمة بذاتها بهدف الوصول إلى أسواق جديدة واكتساب عملاء جدد بتكلفة أقل”.
مع هذا، لا تبدو الصورة مشرقة تماما من وجهة نظر الجميع، إذ إن الدكتور راؤل فيندلي الاستشاري السابق في البنك المركزي التايواني، يرى أن الصناعة المصرفية الآسيوية تتقارب الآن مع المتوسطات العالمية، ومن المرجح أن تسوء الأمور قبل أن تعاود التحسن مجددا، ويعزز رؤيته تلك بالأرقام، قائلا “تباطأ نمو إيرادات الصناعة المصرفية في آسيا من رقمين في الأعوام الأولى من العقد الماضي إلى 5 في المائة فقط في نهاية العقد، وبينما تمثل آسيا اليوم أكثر من ثلث إجمالي الأرباح المصرفية العالمية، فإنها كانت تمثل النصف في عام 2010”.
ويستدرك قائلا، “إذا فقدت الأسواق الناشئة في آسيا قوة الدفع – كما تشير بعض التوقعات – فستواجه البنوك تحديا لإيجاد طرق جديدة للنمو، كما يرجح أن تبرز ظاهرة الديون المتعثرة وارتفاع تكلفة مخاطر الإقراض”.
لكن المشكلة التي تؤرق كثيرا من الخبراء المصرفيين في آسيا بشأن مستقبل الخدمات المصرفية عامة والخدمات المصرفية الرقمية تحديدا، تتعلق بما يعرف بالخدمات المصرفية المفتوحة، وتعني أنه مع تحرك الأسواق نحو مشاركة أوسع في النظام المصرفي، فإن الحكومات تسمح لمقدمي الخدمات غير المصرفية بالعمل في بعض المجالات المصرفية، مثل الإقراض.
ويخشى الخبراء أن يؤدي ذلك إلى زيادة الضغط على هوامش الربح لدى البنوك وعلى حصتها السوقية، خاصة في ظل المنافسة القائمة بين البنوك التقليدية التي تتحول إلى الخدمات الرقمية من جانب ومنصات التكنولوجيا التي تتحول إلى بنوك رقمية من جانب آخر.
تلك المخاوف لا تتناقض بالضرورة مع وجود إمكانات كبيرة لنمو البنوك الآسيوية، بحيث يمكنها زيادة إيرادات المعاملات المصرفية بين 10 – 20 في المائة، وربما يكون المدخل الرئيس لتحقيق ذلك تعزيز النواة المصرفية الآسيوية من خلال مجموعة من عمليات الاندماج المصرفي باعتبارها ضرورية للنجاح وتوسيع نطاقات نشاطها البنكي، عبر تقديم منتجات مالية جديدة وتوسيع قاعدة العملاء لديها، وطرح فرص استثمارية تخرج من النطاق المحلي أو الإقليمي إلى النطاق العالمي، وزيادة القدرة الإقراضية مع خفض التكاليف في الوقت ذاته، وذلك من منطلق أن عمليات الدمج والاستحواذ تعد طريقة حاسمة في اكتساب مزيد من القدرات وتوسيع نطاق الوصول إلى الأسواق.
باختصار، النظام المصرفي العالمي يعيد ترتيب أوراقه تحسبا لمرحلة جديدة من الاقتصاد الدولي، وهي مرحلة مليئة بالتحديات والفرص في آن، خاصة في ظل الدور المتوقع أن تلعبه القارة الآسيوية في الاقتصاد الدولي في العقود المقبلة، ما يجعل بعض الخبراء المصرفيين يوجهون الدعوة للبنوك الآسيوية إلى إعادة تجديد ذاتها أو المخاطرة بخسارة المكانة الرائدة التي وصلت إليها في الأعوام الماضية.