كتب خالد أبو بكر في صحيفة الشروق.
مع عودة ترامب، تقف أوروبا كبحار أبصر عاصفة تتشكل فى الأفق، يعرف تماما ما ينتظره من رياح عاتية وتيارات غادرة. ذلك أن عودة ترامب ليست مجرد حدث سياسى؛ بل هى موجة عاتية تتقدم نحو القارة العجوز محمّلة بمخاوف تحتاج إلى قادة أوروبيين على قدر هذا الخطر المحدق: رسوم جمركية قاسية تهدد اقتصاداتها، وانسحاب أمنى قد يترك أمنها مكشوفا فى وجه العواصف والأنواء. فى هذا المأزق، تتطلع أوروبا إلى «الاستقلال الاستراتيجى» كقارب نجاة، لكنها تدرك أن الإبحار بعيدا عن ظلال حليفها الأمريكى سيكون رحلة شاقة تتطلب شجاعة واستعدادا لمواجهة عالم أقل استقرارا، وأكثر قسوة.
الصدمة التى أصابت التكتل الأوروبى بعد إعلان فوز ترامب بالرئاسة تعبّر عن هاجس حقيقى يعترى القارة العجوز، التى تخشى أن تُصبح ضحية جديدة لسياسات اقتصادية انعزالية، ممثلة فى رسوم جمركية مرتفعة يعتزم ترامب فرضها تُهدد صناعاتها الرئيسية. الاتحاد الأوروبى، الذى تعوّد خلال فترة حكم بايدن على استقرار اقتصادى معقول وعودة دافئة للتعاون الأطلسى، يجد نفسه الآن فى مواجهة جديدة مع عهد «أمريكا أولا»، والتى قد تعود بأقسى صورها.
أوروبا باتت أكثر إدراكا للثمن الباهظ الذى قد تدفعه صناعاتها الكبرى، مثل السيارات والتكنولوجيا، إذا ما قرر ترامب فرض رسوم جمركية تتراوح بين 10% إلى 20%، بل إن البعض يتوقع أن تصل إلى 25% على بعض السلع، وبهذا التوجه قد تهوى صادرات السيارات الألمانية والنمساوية التى تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية، لتواجه ضربة قد تعمّق من الركود الاقتصادى المتصاعد.
***
لكن تعقيدات الموقف لا تقف عند الاقتصاد، بل تمتد إلى قلب الأزمة الأمنية التى تهدد حدود أوروبا الشرقية بسبب الحرب الروسية ــ الأوكرانية. مع عودة ترامب، تبرز مخاوف جدية من احتمال تخلى الإدارة الأمريكية عن دعمها القوى لكييف، وهو دعم لم يعزز فقط صمود أوكرانيا، بل رفع من ثقة أوروبا فى حماية حدودها من التمدد الروسى. أى انسحاب أمريكى قد يتحول إلى كابوس يهدد بفتح جروح قديمة فى أمن القارة. فإن وجدت أوروبا نفسها مضطرة للوقوف بمفردها أمام روسيا، فستكون فى مواجهة ضغط سياسى ومالى هائلين للحفاظ على أمنها واستقرارها.
لا ينعكس التغير فى البيت الأبيض على الاقتصاد والأمن الأوروبيين فحسب، بل يفتح الباب واسعا أمام تساؤلات حول الاستقلالية الاستراتيجية التى تسعى أوروبا لتحقيقها منذ سنوات. الاتحاد الأوروبى، وعلى الرغم من الخطابات الطموحة حول «جيش أوروبى» و«قدرات دفاعية مستقلة»، لا يزال بعيدا عن بناء قوة دفاعية حقيقية تُمكّنه من حماية مصالحه بمفرده. ولعل قمة بودابست الأخيرة، التى شهدت دعوات لتحقيق «استقلال استراتيجى»، تعكس إدراك القادة الأوروبيين لضرورة الابتعاد عن الاعتماد الكامل على الحليف الأمريكى. ففى عهد ترامب، تصبح هذه الاستقلالية ضرورة ملحة، لا مجرد شعار دبلوماسى.
لكن تحقيق هذا الطموح يصطدم بتحديات واقعية؛ فمعظم دول الاتحاد الأوروبى لم تُخصص بعد استثمارات كافية فى الدفاع، ولا تزال تعتمد إلى حد كبير على الولايات المتحدة عبر حلف الناتو. وبينما بدأت دول كفرنسا وألمانيا تُبدى رغبة أكبر فى تعزيز قواها الدفاعية، يبقى الاتحاد الأوروبى بصفة عامة يفتقر إلى بنية دفاعية متماسكة وإلى قيادة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية بعيدا عن هيمنة واشنطن.
***
ما يجعل المشهد أكثر تعقيدا هو الانقسام بين الحلفاء الأوروبيين، رغم اتفاقهم الظاهرى على ضرورة تحقيق استقلالية أكبر. يظهر هذا بوضوح فى الخلافات العميقة بين مواقف دول مثل المجر وفرنسا. ففى حين يسعى رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان إلى التقرب من ترامب ومشاركته رؤيته حول ضرورة تقليص الإنفاق الدفاعى الأمريكى فى أوروبا، تدفع فرنسا وألمانيا نحو وحدة أوروبية أقوى، ما يعنى أن التوافق الأوروبى حول السياسات الدفاعية والاقتصادية قد يبقى حلما بعيد المنال.
ولا يمكن تجاهل تأثير عودة ترامب على ملف المناخ، الذى يشكل هاجسا آخر للقادة الأوروبيين. ترامب، الذى طالما عارض اتفاقيات المناخ العالمية، سيجعل أوروبا فى موقف صعب حيث ستكون وحدها تقريبا فى مواجهة تغير المناخ، مما قد يُضعف جهودها البيئية ويزيد من نفوذ الصين فى هذا المجال. إن انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها المناخية يعنى تقليص الدعم المالى لمشاريع المناخ العالمية، ويجبر أوروبا على إعادة حساباتها المالية وتحمل أعباء مضاعفة للتصدى لهذه الأزمة.
***
مع عودة ترامب، تجد أوروبا نفسها أمام مفترق حاسم؛ فإما أن تختار الاستقلالية وتتحمل مسئولية الدفاع عن مصالحها، أو تعود لأحضان الحليف الأمريكى بكل ما يحمله من تبعات. لكن اتخاذ هذا المسار الجرىء يتطلب قادة استثنائيين، تفتقدهم القارة العجوز فى اللحظة الراهنة، غير أن التحديات قد تفرض ميلادهم قريبا.