رأي

الأحزاب والعشائر وتحدّيات المرحلة المقبلة في الأردن.

كتب محمد أبو رمان في العربي الجديد.

بالإضافة إلى أهمية “البيئة السياسية” الحاضنة للأحزاب السياسية، هنالك مهمة كبيرة تقع على عاتق الأحزاب نفسها في تطوير قدراتها المؤسسية والسياسية لتكون قادرة على إقناع الشارع بخطابها وبناء القاعدة الشعبية المطلوبة، بخاصة في التجارب التي تشهد ولادة جديدة لأحزاب جديدة عديدة، بخاصة إذا كانت هنالك ضحالة في العمل الحزبي سابقاً في الأوساط الاجتماعية.
ينطبق ذلك تماماً على الحالة الحزبية الأردنية اليوم، بعد إطلاق عملية التحديث السياسي، وسنّ تشريعات محفّزة للعمل الحزبي، بخاصة قانونا الانتخاب والأحزاب، إذ تجد الأحزاب الجديدة نفسها خلال الشهور القليلة المقبلة أمام تحدٍّ حقيقي وكبير في ماراثون سياسي وانتخابي استعداداً للانتخابات النيابية الأولى التي ستشهد الامتحان الأول الكبير للمشهد الحزبي في ظل قانون يعطي الأحزاب نسبة 35% من مقاعد مجلس النواب، على صعيد القائمة الوطنية، ويتيح لها التنافس أيضاً على صعيد القوائم المحلية على مستوى المحافظات. 
عانت أغلب الأحزاب الأردنية في العقود الثلاثة الأخيرة من ظاهرة “الهرم المقلوب” (مصطلح استخدمته دراسة عن الأحزاب السياسية أجراها معهد السياسة والمجتمع مع صندوق الملك عبدالله الثاني)، إذ كان التزاحم على المواقع القيادية بينما كان هنالك ضعف شديد في العمل المؤسّسي الممتد، فضلاً عن غياب القاعدة الاجتماعية، لذلك وفي التحضير للانتخابات المقبلة، ومع وجود أحزاب جديدة عديدة، بالإضافة إلى عمليات الاندماج وتصويب الأوضاع لباقي الأحزاب، فإنّ “مأسسة” العمل الحزبي تمثل المهمة رقم 1 للأحزاب جميعاً، بمعنى بناء أجهزة الحزب وتحويله إلى “مؤسّسة سياسية” بالمعنى البنيوي الوظيفي، وتشكيل أجنحة ومنظّمات قادرة على تجذير عمل الحزب في المجتمع وبناء جسور الاشتباك بينه وبين الشارع.

التاريخ السياسي الأردني مثالٌ واضحٌ على نمو الأحزاب السياسية في مراحل سابقة حين كان المجتمع أقلّ تمدّناً وتعليماً

في المقابل، ثمّة نظرية تتبناها نخبة عريضة من السياسيين الأردنيين، أنّ البيئة الاجتماعية غير مؤاتية للعمل الحزبي، إذ تطغى الانتماءات العشائرية والجهوية والفردية على اتجاهات الشارع الأردني، وهي مقولة تحتاج نقاشا معمّقا. لكن وبفرض صحّتها، فإنّ القول بوجود بيئة مجتمعية – ثقافية محدّدة، تتواءم مع العمل الحزبي حصرياً مسألة نظرياً فيها نقاش كبير أيضاً، فالثقافة السياسية، وفقاً للعديد من منظّري الانتقال الديمقراطي لا تكون سابقة ومنجزة قبل عملية الانتقال، بل هي تأتي مصاحبة للعملية ومراحلها وتتكرّس بالتوازي والتزامن مع تطور اللعبة السياسية باتجاه تكريس الديمقراطية.
أكثر من ذلك، إذا افترضنا ضرورة وجود الثقافة السياسية “المدنية، بوصفها شرطاً مسبقاً للانتقال الديمقراطي (وهو ما اعترضنا عليه سابقاً)، فإنّ اثنين من أبرز منظّري الثقافة المدنية، جرائيل ألموند وسيدني فيربا (في كتابهما “الثقافة المدنية” 1963) يريان أن الثقافة السياسية المطلوبة هي مزيج من ثلاثة أنواع من الثقافات؛ مدنية ومحدودة وضحلة، لتأمين قدرٍ من المشاركة السياسية بالتزاوج مع الاستقرار السياسي، وهي ثقافات موجودة في المجتمع الأردني بنسبة جيّدة للثقافة المدنية التي ترتبط بالطبقة الوسطى ومستوى التعليم والتمدّن.
ولعلّ التاريخ السياسي الأردني مثال واضح على نمو الأحزاب السياسية في مراحل سابقة حين كان المجتمع أقلّ تمدّناً وتعليماً، في مرحلة الخمسينيات، عندما صعدت أحزابٌ تمكّنت من استقطاب الشارع وبناء قاعدة شعبية، نسبة كبيرة منها من أبناء العشائر الذين انخرطوا في العملية الحزبية، وإذا كانت التجربة الحزبية تراجعت، فذلك يعود إلى أسبابٍ متعدّدة؛ منها المرحلة العُرفية الممتدّة من حظر الأحزاب السياسية، ومنها سياسات الدولة وخطابها المخوّف والمتخوّف من العمل الحزبي، ما عزّز الانتماءات الأخرى على حساب الانتماء الحزبي، وهي مرحلةٌ ليس من المتوقّع أن نتجاوز تداعياتها بين ليلةٍ وضحاها، بخاصة أنّ هنالك شكوكاً كبيرة لدى نسبة اجتماعية عريضة ومعتبرة في مصداقية نيات الدولة تجاه الأحزاب السياسية.

هل تستطيع الأحزاب في الأردن خلال أشهر قليلة أن تبرهن على وجودها، وأن تبني قاعدةً اجتماعية شعبية؟

ليست الأحزاب كائنات فضائية، فهي تتطلب بيئة حاضنة أولاً، ووقتاً لتطوير العمل المؤسّسي وبناء القواعد الشعبية وصناعة السياسات البديلة والاشتباك مع الشارع، وهذا كلّه مشروط بصيرورة العملية الديمقراطية نفسها، وبالتالي العملية تفاعلية تشاركية وتدرجية، كما حدث في مختلف التجارب الحزبية والديمقراطية في العالم. 
هل تستطيع الأحزاب في الأردن خلال أشهر قليلة متبقية أن تبرهن على وجودها، وأن تبني قاعدة اجتماعية شعبية؟ هو تحدّ كبير وصعب، لكن إن كانت هنالك إرادة حقيقية في الدولة وقناعة بهذا المسار فإنّها ستساعد في جعل الانتخابات المقبلة محطّة إيجابية ومتقدّمة لتطوير العمل الحزبي، لكن هذا يقتضي من الأحزاب أن تهتم بالعديد من الجوانب الأساسية، في مقدّمتها صياغة خطاب سياسي وبرامجي مقنع وواقعي ومشتبك مع هموم الشارع وقضاياه الرئيسية، وبناء أجنحة قوية بخاصة؛ لدى الشباب والمرأة وفي مجال الإعلام الرقمي الذي يمثّل اليوم أحد أهم مصادر القوة والضعف لدى الأحزاب في العالم. 
إلاّ أنّه إذا كان هنالك شرط مسبق وحيد فهو استقلالية الأحزاب السياسية، ووجود مساحة عمل واسعة لها، ورسائل سياسية واضحة تؤكّد على نزاهة الانتخابات النيابية المقبلة ونظافتها، لأنّ ذلك هو محفّز التنافس الحزبي وبناء القدرات لاستثمار المقاعد المخصّصة في قانون الانتخاب. 
لا أدّعي أنّنا أمام مهمة سهلة أو مضمونة، بل هي عملية صعبة وشاقّة، وكانت تتطلب وقتاً أطول، وإذا كان هنالك داعٍ لتأجيل الانتخابات المقبلة لمنح الأحزاب وقتاً أكبر فلمَ لا، إذا كان ذلك القرار واضحاً وتوافقياً ويخدم تطوير التجربة الحزبية، لأنّ البديل عن فشل التجربة الحزبية هو الاستمرار في حلقةٍ مفرغةٍ من الأزمات السياسية التراكمية واستمرار استنزاف النخب السياسية وتعزيز بواعث العزوف عن المشاركة السياسية بخاصة لدى جيل الشباب.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى