إشكاليات أمن الخليج بين السياسات الإقليمية والاستراتيجيات الدولية
جاء في مقال للسفير علي جمعة العبيدي في صحيفة “رأي اليوم”:
إن منطقة الخليج من أهم النقاط الاقتصادية والاستراتيجية في العالم، فعبر مياه الخليج يمر ثلث الطاقة إلى العالم، فهذه المنطقة تعد مصدراً رئيساً للنفط والغاز الطبيعي، وتُشكل نسبة كبيرة من الإنتاج العالمي، وأي أزمة فيها تتأثر بها أسعار الطاقة في العالم تأثراً مباشراً، بالإضافة إلى أنها مورد للتجارة والتنوع الاقتصادي، إذ تحتضن مدن المنطقة أهم المطارات الدولية وطرق التجارة، ناهيك عن المدن المقدّسة، وهذا يجعلها محط أنظار وقلوب معظم سكان العالم، لكنها في الوقت نفسه تملك إشكاليات كبيرة سيما في مستوى الأمن الإقليمي، والتوتر هو سمة الوضع فيها منذ سبعينيات القرن الماضي، فمنذ ذلك الوقت والمنطقة تعيش حالة من المد والجزر بين انتماءات دولها السياسية واستراتيجياتها الدولية بين الاتحاد السوفييتي من جهة، والولايات المتحدة والمعسكر الغربي من جهة أخرى، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي استمر الانقسام بين دول المنطقة، وكانت الولايات المتحدة مصدراً للخلافات بين هذه الدول.
وبعد اجتياح العراق للكويت، في أغسطس 1990، ووقوف إيران في صف الدول العربية برفضها هذا الاجتياح، برز نوع من الهدوء من جهة إيران والدول العربية، واستمر الأمر نحو عقد من الزمن، وحدث التفاهم بين ضفتي الخليج إيران والسعودية، وشهد عام 2001 توقيع الاتفاقية الأمنية بينهما، بالإضافة إلى اتفاقيات اقتصادية خلقت بعداً جديداً للعلاقات بينهما لكن هذا التفاؤل لم يستمر وقتاً بعيداً بسبب حرب العراق 2003، فعاد التوتر المتصاعد بين الجانبين حتى الربيع العربي 2011، وأثرت العلاقات الدولية واستراتيجياتها في سياسات الدول الإقليمية بعضها بين بعض؛ فاستمرت التوترات من جديد إلى أن وقعت إيران والسعودية اتفاقاً للمصالحة بينهما في العاشر من مارس/ آذار 2023، عده كثيرون فاتحة أمل للمنطقة.
وباتت الأوساط السياسية تتحدث عن ضرورة إيجاد استراتيجية إقليمية تؤثر في العلاقات الدولية وليس العكس، فإيران والسعودية والإمارات تعد من الدول الرئيسة المؤثرة في العالم سواءً في مستوى الطاقة أم التجارة والاقتصاد، وطالما أن دول العالم تتجه نحو التكتلات مثل البريكس ومجموعة السبع أو العشرين، بات من المهم أن يُخلق لمنطقة الخليج بضفتيها، تكتل مُشابه يؤثر في السياسات الدولية ولا يبقى متاثراً بها.
وتشير عدد من المؤشرات والتحولات في الأشهر الأولى من العام 2023، إلى أن دول المنطقة باتت تعي أهمية التحالفات الإقليمية خصوصاً في ظل القيادة السعودية الشابة المتمثلة بولي العهد محمد بن سلمان، الذي لا يكف عن اتخاذ قرارات استراتيجية مهمة تصب في صالح بلده، من بينها إعلان وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان أن بلاده ستخفض طوعياً تخفيضاً إضافياً في إنتاجها من النفط مقداره مليون برميل يومياً ابتداءً من يوليو 2023، وهذا سيدعم اقتصادها في ظل ارتفاع أسعار النفط، وهو خلاف ما تطلبه الولايات المتحدة التي تشدد على ضرورة زيادة إنتاج النفط، وترى أن القرار السعودي يأتي موافقاً للرغبات الروسية.
والسياسات الخارجية للمملكة العربية السعودية لم تقف عند الطاقة فقط، فقد أكدت ‘واشنطن بوست’ أن ولي العهد السعودي هدد باستخدام سلاح العقوبات في مواجهة المصالح الأميركية، في حال مضى الرئيس الأميركي جو بايدن بتنفيذ تهديده بحق الرياض، على خلفية خفض معدلات إنتاجها من النفط الخام. وأوضحت أن محمد بن سلمان أوضح أنه سيقطع العلاقات مع الولايات المتحدة والانتقام منها اقتصادياً، وتكبيد واشنطن تكاليف اقتصادية كبيرة.
ومن الناحية الأمنية فقد أُعلن تشكيل تحالف بحري في المنطقة، يضم إلى جانب إيران كلاً من السعودية والإمارات وقطر والبحرين والعراق، وهذا سيساهم في تعزيز اتجاه دول المنطقة إلى الاعتماد على نفسها أمنياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً، للدرجة التي يمكن فيها القول إن أدوات تشكيل تحالف للمنطقة كلها تؤثر في الاستراتيجية الدولية باتت موجودة، لكن من الضروري مراعاة نقاط عدة في إنشاء هذه المنظومة الإقليمية التي تؤثر بالخارج ولا تتأثر به، أبرزها العمل للحد من الصراعات والأزمات البينية ومحاولة دفن الماضي، ثم إيجاد منظومة اقتصادية تفاعلية بين دول المنطقة تكون ذات رؤية تشاركية تكاملية تعزز التعاون بينها وتمنع الخلافات لأن الاقتصاد دائماً ما يخدم السياسة والتنمية بين الدول، ثم خلق مصالح اقتصادية وسياسية واجتماعية مشتركة بين شعوب المنطقة وهذا يُشجع عمليات التقارب السياسي والاجتماعي والثقافي. مع أهمية الإشارة إلى أن معظم دول منطقة الخليج باتت تملك لوبيات في عواصم القرار الغربي وتؤثر تأثيراً مباشراً في قرارات هذه الدول، وبالتالي يمكن استخدام هذا النفوذ لإطلاق رؤية الخليج الجديد، تلك الرؤية التي تعتمد إقليمية الأمن الخليجي، وأنه مسؤولية دوله فقط، في إطار من التوازنات والضوابط التي تحول دون توغل طرف على آخر، أو على تهديد أمن واستقرار وسيادة هذه الدول، وهذا الأمر إن تحقق فمن شأنه الحد من تأثير التدخلات الخارجية، ويجعل من تحالفات دول المنطقة مؤثراً وفاعلاً وليس متأثراً وتابعاً.
ان الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرًا.