“إسرائيل” تمزق وقف إطلاق النار في غزة وواشنطن منشغلة بأوكرانيا

كتب بول ر. بيلار, في مجلة “Responsible Statecraft” الأميركية:
لا يوجد وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، رغم أنَّ اتفاقاً تم التوصل إليه في 9 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يُفترض أنَّه أرسى ذلك، لكن “إسرائيل” تتصرف بلا رادع مع تصاعد انتهاكات الهدنة وسقوط الضحايا المدنيين.
يستمر الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وإن كان بوتيرة أقل مما كان عليه خلال العامين الماضيين. ووفقاً لإحدى الإحصائيات، انتهكت “إسرائيل” اتفاق وقف إطلاق النار 591 مرة منذ سريان مفعول الاتفاق إلى اليوم الثاني من الشهر الجاري، بمزيج من الهجمات الجوية والمدفعية وإطلاق النار المباشر. وتفيد وزارة الصحة في غزة أنَّه خلال هذه الفترة، قُتل 347 فلسطينياً وأُصيب 889 آخرون، بينما يستمر نمط هذا القتل، وسقوط الضحايا الفلسطينيين من النساء والأطفال من ضمنهم الصحفيون.
وفي الوقت عينه يصعب العثور على أي خسائر إسرائيلية موثقة في قطاع غزة خلال الفترة نفسها، باستثناء حادث إطلاق نار مبكر في رفح تقول “إسرائيل” إنَّه أدى إلى مقتل جندي، وتقول “حماس” إنَّ لا علاقة لها بالحادث. وتتضح القواعد التي وضعتها “إسرائيل” لنفسها خلال هذه “الهدنة”، من خلال قتلها فلسطينيين 2 في نهاية الأسبوع الماضي بالقرب من خان يونس على خط الهدنة “الأصفر”. وقال “الجيش” الإسرائيلي إنَّ جنوده حددوا أنَّ الضحيتين، “يقومان بأنشطة مشبوهة”، وبعد ذلك “قامت القوات الجوية، بتوجيه من القوات البرية بالقضاء على المشتبه بهم لإزالة التهديد”، الذي تمثل في طفلين بعمر 9 و10 سنوات كانا قد غادرا منزلهما لجمع الحطب.
وينطبق نمط السلوك الإسرائيلي نفسه اليوم في لبنان، حيث تم التوصل إلى اتفاق هدنة في تشرين الثاني/ نوفمبر في العام الماضي، إذ وثقت قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل” أكثر من 7,500 انتهاك للمجال الجوي ونحو 2,500 انتهاك بري من قبل “إسرائيل”، فيما وصفه المقرر الخاص للأمم المتحدة بأنَّه “تجاهل تام لاتفاق وقف إطلاق النار.”
وتجلّى الموقف الإسرائيلي تجاه التزامها بتنفيذ الاتفاقات خلال وقف إطلاق النار أيضاً في غزة والتبادل الجزئي للأسرى في بداية العام الجاري، حيث استقبلت “إسرائيل” بعض الأسرى المفرج عنهم، واستغلت فترة الاستراحة لقواتها العسكرية قبل إنهاء وقف إطلاق النار واستئناف هجومها الشامل في آذار/ مارس الماضي، في توكيد أنَّ الحكومة الإسرائيلية لم تكن تنوي أبداً تنفيذ المراحل اللاحقة من ذلك الاتفاق.
باستثناء الموافقة على وقف إطلاق النار، لم تكن هناك أي مشاركة لحركة “حماس” أو أي فلسطيني آخر في ” خطة السلام ” الحالية المكونة من 20 نقطة لغزة، وصاغتها إدارة ترامب، من دون الإفصاح عن حجم الإسهامات الإسرائيلية، ولكن بنتائج تصب في صالح “إسرائيل” بشدة. لذلك، ترفض “حماس” الخطة، وتُشير من بين أمور أخرى إلى أنَّها تضع الفلسطينيين تحت حكم أجنبي.
وسيشمل هذا الحكم الأجنبي هيئة دولية برئاسة داعم قوي لـ”إسرائيل” هو دونالد ترامب. والعضو الآخر المُرشح لهذه الهيئة الإشرافية هو رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وهو شخصية مثيرة للجدل بين العرب لأسباب تتعلق بتحريضه على الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وعمله لاحقاً كمبعوث دولي لمعالجة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.
كما تُشير حماس إلى جوانب أخرى تُخالف فيها الخطة المصالح الفلسطينية بشدة، بما في ذلك ما يتعلق بقوة استقرار دولية مُحتملة. وتقول “حماس” بأنَّ “تكليف القوة الدولية بمهام وأدوار داخل قطاع غزة، من ضمنها نزع سلاح المقاومة، يُفقدها حيادها، ويُحوّلها إلى طرف في الصراع لصالح الاحتلال”. ونظراً لأن الخطة تُفضّل “إسرائيل” بضراوة، قد يظن المرء أنَّ حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ستكون أكثر ميلاً لاستكمال تنفيذها مما كانت عليه في اتفاق بداية العام الجاري.
لكن إحدى أهم الطرق التي تُفضّلها “إسرائيل” هي السماح لها بمواصلة احتلال أجزاء من قطاع غزة إلى أجل غير مسمى ما لم تُلبَّ شروطها الأخرى، وترك الأمر لها لتقرر ما إذا كانت ستُلبى أم لا. وتُمهّد الخطة الطريق لـ”إسرائيل” لإعلان وجوب استمرارها ليس فقط في الاحتلال، بل أيضاً في عملياتها العسكرية القاتلة. والشرط الرئيسي المعلن هو نزع سلاح حماس، وهو ما يؤكده نتنياهو في خطابه. وبما أنَّ ” حماس” أبدت استعدادها للتخلي عن دورها المباشر في الحكم في غزة، فإنَّ نزع السلاح الكامل يُقارب تحقيق هدف نتنياهو المعلن سابقاً في “تدمير” الحركة.
وليس من المستغرب أن ترفض حركة “حماس” كونها هدف التدمير أن تسلم جميع أسلحتها. ولا عجب في حالة الحركة نظراً لعدم مشاركتها في صياغة الخطة الحالية، أن تتحدث هذه الوثيقة عن “ضمانة” لامتثال “حماس” لبنود الاتفاق، من دون التطرق إلى الرد على الانتهاكات الإسرائيلية المتفشية، وأن “إسرائيل” قد ألحقت خسائر فادحة في الأرواح والدمار تفوق بكثير ما فعلته “حماس”.
وتواجه إدارة ترامب صعوبة بالغة في تجنيد الدول للمشاركة في قوة الاستقرار الدولية المقترحة. والسبب الرئيسي لتردد المشاركين المحتملين هو استمرار العمليات العسكرية في غزة، وليس هناك وقف إطلاق نار حقيقي يُطبّق ولا من يُراقبه. كما لا ترغب الحكومات تحديداً في التدخل في محاولة نزع سلاح حماس. فإذا لم تتمكن نحو عامين من الحرب الشرسة التي شنتها “إسرائيل” من تحقيق هذا الهدف، فلن تتمكن قوة دولية أصغر وأضعف من ذلك أيضاً، بينما لا ترغب الدول العربية تحديداً، وكذلك الدول ذات الأغلبية المسلمة الأخرى، أن تقوم بالأعمال القذرة التي تقوم بها “إسرائيل”.
وما تزال دوافع نتنياهو لمواصلة الحرب من دون تغيير كما هي في معظمها. وقد يُضعف طلبه العفو لإنهاء قضية الفساد المرفوعة ضده أحد هذه الدوافع، لكن فكرة هذا العفو، رغم تأييد الرئيس ترامب، مثيرة للجدل في “إسرائيل”، وليس هناك ما يضمن أن الرئيس إسحاق هرتسوغ سيمنحه. على أي حال، فإن بقاء نتنياهو في السلطة يعني الحفاظ على ائتلاف يميني يضم متطرفين لن يترددوا في التطهير العرقي الكامل للفلسطينيين. ومن انعكاسات ذلك إعلان “إسرائيل” الأخير عن استعدادها لإعادة فتح معبر رفح بين قطاع غزة ومصر، ولكن فقط لمغادرة الفلسطينيين غزة، وليس العودة إليها.
من المحتمل أن يُنقذ تركيز الولايات المتحدة ومتابعتها الخطة المكونة من 20 نقطة، لكن من غير المرجح أن تُولي إدارة ترامب هذا الاهتمام، وهي منشغلة بالصراع الروسي- الأوكراني حالياً، وتخوض محادثات رفيعة المستوى، حيث التقى مؤخراً المبعوث الخاص ستيف ويتكوف وصهر الرئيس جاريد كوشنر، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو. وإذا عاد اهتمام ترامب بالاتفاقيات الدولية إلى الشرق الأوسط، فقد لا يكون ذلك بسبب “إسرائيل” وفلسطين، بل إلى إيران التي على الرغم من انعدام الثقة المستمر بين الطرفين، والذي تفاقم بسبب العدوان الإسرائيلي والأميركي ضدها في حزيران/يونيو الماضي، أبدت طهران التزامها بالدبلوماسية واهتمامها بالتفاوض على اتفاق نووي جديد.
كذلك ترامب ليس مولعاً بالمتابعة، ومهتمٌّ أكثر بتوقيع أو الترويج لأي شيء يُمكنه اعتباره اتفاق سلام، بغض النظر عن فعاليته. ومن المرجح أن يُقدّر أي جديد بشأن أوكرانيا أو إيران أكثر من الجهد المطلوب لإحلال سلام حقيقيٍ في غزة. لذلك، يُتوقع غياب السلام في تلك المنطقة البائسة، مع غياب أي وقف إطلاق نار فعلي، وضعف احتمال تنفيذ معظم بنود الخطة المكونة من 20 نقطة. وبصورة أعم لن يتحقق السلام ما دامت “إسرائيل” تُخضع الفلسطينيين.
المفاجأة الجديدة الوحيدة في هذه القصة الحزينة المألوفة هي احتمال تقسيم قطاع غزة على المدى الطويل على طول الخط الأصفر، حيث تحتل “إسرائيل” بشكل مباشر أكثر من نصف القطاع بقليل، من ضمنها معظم الأراضي الزراعية المتاحة. وقد أقامت “إسرائيل” البنية التحتية على طول الخط الأصفر وتتصرف على أساس أنًّ وجودها الدائم.
ويبدو أن كلاً من الحكومة الإسرائيلية وإدارة ترامب تصبان في صالح دعم مقولة إنَّ حياة الفلسطينيين في ظل الحكم الإسرائيلي أفضل مما قد يحظون به في أي منطقة تحكمها حركات مثل “حماس”. وامتداداً لهذه المقولة، أعلنت إدارة ترامب عن نيتها بناء مجمعات سكنية على الجانب الإسرائيلي من القطاع، تُمثل تحسيناً لمنازل العديد من سكان غزة، من خيام وأنقاض وطين.
الجانب الآخر من استراتيجية تقسيم الأراضي هذه هو إبقاء الجانب غير الإسرائيلي في حالة بؤس. ولتحقيق هذا الهدف، ما تزال “إسرائيل” تُقيّد وصول المساعدات الإنسانية. ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، لم يُسمح إلا لنحو 20% فقط من شاحنات المساعدات التي كان من المفترض أن تُدخل غزة بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بالدخول.




