أوروبا تعترف بفلسطين: صرخة ضد نتنياهو ورسالة إلى ترامب

كتب د. جيرار ديب في صحيفة العرب.
الاعتراف الأوروبي وحده قد لا يغيّر موازين القوى على الأرض، لكنه يفتح ثغرة في جدار الصمت الدولي.
قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين من على منبر الأمم المتحدة لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية رمزية، بل لحظة سياسية فارقة تكشف حجم الشرخ بين أوروبا من جهة، وإسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة من جهة أخرى.
هذا الاعتراف الذي تبنته باريس، وسارت على خطاه بريطانيا ودول أوروبية أخرى، حمل دلالات تتجاوز حدود غزة والضفة الغربية؛ إنه إعلان رفض أوروبي صريح لمحاولات إعادة صياغة الشرق الأوسط وفق مقاسات بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب.
منذ اللحظة الأولى، جاء الرد الإسرائيلي هستيريًا. نتنياهو رأى في الاعتراف “مكافأة لحماس” وتهديدًا لوجود إسرائيل، فيما ذهب وزير أمنه القومي إيتمار بن غفير أبعد، مطالبًا بفرض السيادة على الضفة الغربية وسحق السلطة الفلسطينية.
هكذا تكشف إسرائيل عن وجهها الحقيقي: دولة لا ترى في السلام سوى قيد على مشروعها التوسعي، ولا تتورع عن وصف أيّ اعتراف بحقوق الفلسطينيين بأنه “إرهاب”.
لكن الاعتراف الأوروبي لم يكن مجرد نزوة أخلاقية، بل انعكاس لحسابات أعمق. فالقارة العجوز باتت تشعر أن ترامب يشكل خطرًا مباشرًا على منظومتها القيمية والسياسية.
خطابه الشعبوي اليميني، ودعمه لتيارات متطرفة، وتغاضيه عن مصالح الاتحاد الأوروبي في ملفات كبرى مثل أوكرانيا والتجارة العالمية، كلها مؤشرات دفعت العواصم الأوروبية إلى البحث عن استقلالية إستراتيجية، ولو من بوابة فلسطين.
فرنسا التي تواجه صعود اليمين المتطرف داخليًا، وبريطانيا التي تشهد احتجاجات متزايدة ضد الحرب على غزة، وجدتا في الاعتراف بفلسطين رسالة مزدوجة: مقاومة للهيمنة الأميركية، واستجابة لضغط شعوب لم تعد تحتمل مشاهد المجازر اليومية.
أبعد من ذلك، يدرك الأوروبيون أن مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يحلم به نتنياهو يقوض إرث سايكس بيكو، ويهدد بإعادة رسم جغرافيا المنطقة بما يهمّش الدور الأوروبي لصالح الثنائي الأميركي – الإسرائيلي.
لهذا فإن الاعتراف بفلسطين ليس فقط دعمًا لحق تقرير المصير، بل دفاع عن المصالح الأوروبية ذاتها، وعن بقاء الاتحاد الأوروبي لاعبًا في توازنات الشرق الأوسط.
صحيح أن ماكرون دعا بالتوازي إلى اعتراف عربي بإسرائيل، في محاولة لإحياء المشروع الإبراهيمي بوجه جديد، لكن جوهر الرسالة يبقى أن أوروبا ليست ضد إسرائيل ككيان، بل ضد سياسات نتنياهو التي تدفع بالمنطقة نحو الفوضى والحروب المفتوحة.
أوروبا أرادت أن تقول: لا يمكن استمرار الحرب على غزة بلا ثمن، ولا يمكن تبرير قتل المدنيين بذريعة “محاربة الإرهاب”.
يبقى السؤال: ماذا لو لم تعترف أوروبا بفلسطين؟ على الأرجح كانت ساحاتها ستشهد انفجارات اجتماعية أوسع، واحتجاجات تهدد استقرار حكوماتها. كانت ستخسر معركتها الأخلاقية أمام شعوبها، وتُترك أسيرة لإملاءات واشنطن وتل أبيب. لذلك جاء الاعتراف كخيار اضطراري بقدر ما هو سياسي وأخلاقي.
في النهاية، قد لا يغيّر الاعتراف الأوروبي وحده موازين القوى على الأرض، لكنه يفتح ثغرة في جدار الصمت الدولي، ويضع إسرائيل في مواجهة عزلة متزايدة، ويذكّر ترامب أن العالم لم يعد ساحة بيضاء ينقش عليها نزواته.
إنها بداية معركة طويلة، عنوانها: هل تبقى فلسطين مجرد ورقة تفاوضية، أم تتحول إلى دولة حقيقة تعترف بها الأمم، وتفرض وجودها رغمًا عن الاحتلال؟