رأي

أوراق القوة التي تملكها تونس

كتب محمد الصالحين الهوني, في العرب:

تاريخ تونس يعلمنا أن أكبر التحديات تحمل في طياتها أكبر الفرص… تونس التي علمت العالم الديمقراطية قادرة على أن تعلمه الاستدامة والابتكار.

في ليلة باردة من يناير، كانت الحشود تملأ شارع الحبيب بورقيبة، وهتافات “حرية، كرامة، عدالة اجتماعية” تهز أركان نظام ظل صامداً ثلاثة وعشرين عاماً. كان المشهد أشبه بمعجزة إنسانية: شعب قرر أن يغير مصيره بيديه.

اليوم، وبعد أربعة عشر عاماً، يعود نفس الشارع ليكون مسرحاً لمعجزة مختلفة: معرض تونس الدولي للابتكار الأخضر، حيث تُعرض سيارات كهربائية صممها مهندسون تونسيون شباب، وأنظمة ري ذكي طورتها شركات ناشئة لم تتجاوز أعمارها سنوات قليلة، ونماذج مصغرة لواحات شمسية ستُبنى في عمق الصحراء التونسية. المفارقة تكمن في السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: إذا كان هذا البلد الصغير قادراً على تعليم العالم درساً في الانتقال الديمقراطي السلمي، فلماذا لا نصدق أنه قادر اليوم على تعليم العالم كيف يبني مستقبلاً مستداماً؟

السر يكمن في أن تونس 2025 تملك نفس المقومات التي صنعت “الاستثناء التونسي” عام 2011. إنها نفس روح الشباب المتمردة على المستحيل، ونفس المجتمع المدني الحيوي الذي رفض الصمت، ونفس الموقع الجيوستراتيجي الفريد الذي جعلها جسراً بين ضفتي المتوسط، ونفس العقلية الثورية التي ترفض القبول بالواقع كما هو. الفرق الوحيد أن المعركة اليوم لم تعد ضد دكتاتور بشري، بل ضد نظام اقتصادي عالمي يهدد الكوكب بأكمله، وضد تغير مناخي يتحول إلى خطر وجودي. لكن تاريخ تونس يعلمنا أن أكبر التحديات تحمل في طياتها أكبر الفرص.

الحديث عن إمكانيات تونس في مجال الاستدامة والابتكار ليس ضرباً من الخيال أو الأمنيات، بل هو قائم على أصول حقيقية وملموسة

لنعد قليلاً إلى تلك الأيام الحاسمة من عام 2011. كان التحدي آنذاك هائلاً: نظام سياسي متصلب يرفض أي تغيير، وآلة أمنية ضخمة، واقتصاد منهك، ومجتمع يعاني من البطالة واليأس. لكن الشعب التونسي، وبفضل مزيج فريد من الشجاعة والحكمة، استطاع أن يقلب المعادلة. السر لم يكن في القوة العسكرية أو المالية، بل في ثلاث أدوات بسيطة لكنها فعالة: التنسيق الأفقي بين مختلف مكونات المجتمع، والاستخدام المبتكر للتكنولوجيا الرقمية، وآلية الحوار الوطني التي جمعت الجميع على طاولة واحدة.

اليوم، نواجه تحدياً مختلفاً في الشكل لكنه متشابه في الجوهر: نظاما اقتصاديا عالميا قائما على الوقود الأحفوري يرفض التغيير الجذري، وآثار تغير المناخ تهدد الأمن المائي والغذائي، ومجتمعا يعاني من ارتفاع الأسعار وندرة الموارد. لكن نفس الأدوات التي انتصرت في 2011 قادرة على الانتصار مرة أخرى. نفس شبكات التواصل والتنسيق بين المهندسين والعلماء والفلاحين والناشطين البيئيين يمكنها بناء تحالفات خضراء قوية. نفس التكنولوجيا الرقمية التي استُخدمت للتنظيم السياسي يمكن تحويلها اليوم إلى أدوات للابتكار البيئي: الذكاء الاصطناعي لإدارة الموارد المائية، والبلوك تشين لضمان شفافية سلاسل الإمداد الخضراء، والبيانات الضخمة لمراقبة آثار التغير المناخي. ونفس آلية الحوار الوطني التي أنقذت البلاد من حرب أهلية يمكن أن تتحول إلى “حوار وطني للاستدامة” يجمع كل الأطراف حول رؤية مشتركة لمستقبل أخضر.

الحديث عن إمكانيات تونس في مجال الاستدامة والابتكار ليس ضرباً من الخيال أو الأمنيات، بل هو قائم على أصول حقيقية وملموسة. فلنبدأ بهبات الطبيعة التي حبا الله بها هذا البلد؛ تونس تملك أعلى معدل للإشعاع الشمسي في حوض المتوسط كله، تكفي لتزويد أوروبا كلها بالكهرباء لو استُغلت بشكل صحيح. مشروع “تونور” العملاق الذي يخطط لبناء محطات شمسية في الصحراء التونسية بقدرة 4.5 غيغاواط، ومشروع “ديزيرتيك” الأوروبي الذي يرى في تونس بوابة للطاقة الخضراء، هما دليل عملي على هذه الإمكانيات الهائلة.

اليوم، نواجه تحدياً مختلفاً في الشكل لكنه متشابه في الجوهر: نظاما اقتصاديا عالميا قائما على الوقود الأحفوري يرفض التغيير الجذري، وآثار تغير المناخ تهدد الأمن المائي والغذائي

وللطاقة الشمسية شقيق آخر لا يقل أهمية: الرياح. مع سواحل تمتد على مسافة 1300 كيلومتر، ورياح ساحلية قوية ومستمرة، تملك تونس إمكانات ريحية تقدر بـ1000 ميغاواط حسب دراسات البنك الدولي. هذا المزيج الفريد من الشمس والرياح يمكن أن يحول تونس إلى مصدّر صافٍ للطاقة الخضراء، خاصة مع مشروع الربط الكهربائي البحري مع إيطاليا الذي سيمكن من تصدير الفائض من الكهرباء النظيفة إلى الأسواق الأوروبية.

أما الكنز الحقيقي الذي تملكه تونس فهو ليس في باطن الأرض، بل في عقول أبنائها. فتونس لديها أعلى نسبة مهندسين للفرد في أفريقيا كلها، بواقع مهندس واحد لكل ألف مواطن. وهذه النخبة الهندسية تتجدد سنوياً بتخريج أكثر من 70 ألف طالب في تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

الربيع العربي بدأ من تونس بزهرة الحرية، والربيع الأخضر يمكن أن يبدأ منها أيضاً ببذور الابتكار والاستدامة. الطريق طويل والتحديات كثيرة، لكن شعباً استطاع أن يغير مصيره السياسي بين ليلة وضحاها، قادر بدون شك على أن يغير مصيره البيئي والاقتصادي. المطلوب فقط هو نفس الإيمان الذي ملأ القلوب في تلك الليلة الباردة من يناير: الإيمان بأن التغيير ممكن، وأن المستقبل يُصنع بأيدي من يجرؤون على الحلم ثم يتحركون لتحقيقه.

تونس التي علّمت العالم الديمقراطية قادرة على أن تعلّمه الاستدامة والابتكار.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى