أسواق الطاقة في 2023… عام الأرقام القياسية.
في مقالة سابقة كان الحديث عن عام 2022 وكيف أنه كان عاماً تاريخياً بكل المقاييس، ففيه هاجمت روسيا أوكرانيا، وكرد فعل على ذلك تم فرض أكبر عقوبات في مجال الطاقة في التاريخ، وسحبت أكبر كمية من المخزون النفطي الاستراتيجي الأميركي في التاريخ، وارتفعت أسعار الغاز والغاز المسال والكهرباء في أوروبا إلى أعلى مستوى في التاريخ، وقامت الصين بأكبر إغلاق لاقتصادها في التاريخ، كما قدمت الدول الأوروبية، لأول مرة منذ عقود، إعانات ضخمة للمواطنين للتخفيف من ارتفاع أسعار البنزين والغاز والكهرباء، وبرز دور تسعير “أرامكو” لنفطها كمؤثر في السوق بطريقة لم نرها من قبل، كما تم، لأول مرة في التاريخ، فرض سقف سعري على صادرات دولة أخرى، حيث قامت مجموعة دول السبع والاتحاد الأوروبي بفرض سقف سعري على النفط الخام الروسي.
وكان من أهم الدروس التي تعلمناها أو تم التأكيد عليها، أن العقوبات الاقتصادية لا تنفع في تغيير مواقف الخصم، وأن النفط سيباع في الأسواق على كل الحالات، وأن فكرة السقف السعري فاشلة. وتعلمنا أن أفضل فترة في تاريخ “أوبك” و”أوبك+” في إدارة السوق كانت في عامي 2021 و2022، حين لعبت الاجتماعات الشهرية والقرارات الحاسمة والمتابعة المستمرة دوراً كبيراً في استقرار الأسواق.
ولكن ماذا عن عام 2023؟
على رغم أن عام 2023 لن يكون حافلاً بالأحداث المهمة مثل عام 2022، إلا أن له خاصيته، فهو عام يختلف نصفه الأول عن نصفه الثاني بشكل كبير، كما ذكرنا في تقرير أصدرناه باللغة الإنجليزية في بداية العام، وكان أول تقرير يشير إلى نصفين مختلفين، كما أنه العام الذي يشهد أرقاماً قياسية في مجالات عدة، ففي النفط، سيشهد هذا العام أعلى طلب على النفط في التاريخ، وسيكون الطلب على النفط في بعض البلاد الآسيوية هو الأعلى أيضاً، وفيه تحاول إدارة بايدن إعادة ملء المخزون الاستراتيجي جزئياً، وفي مجال الغاز المسال، سيشهد هذا العام أعلى صادرات أميركية للغاز المسال، وهي الدولة التي كانت مستوردة سابقاً. وفي مجال الفحم، سيشهد العالم أكبر إنتاج وأكبر استهلاك في التاريخ، على رغم الحرب الشديدة على تلك المادة خلال السنوات الـ 20 الماضية، وسيصل عدد السيارات الكهربائية إلى أعلى مستوى له أيضاً في هذا العام.
وشهد عام 2023 تراجع شركات النفط الأوروبية عن أهدافها المناخية والعودة إلى الاستثمار بشكل كامل في النفط والغاز، كما شهد ارتفاعاً في تكاليف إنتاج الطاقة الشمسية والهوائية والسيارات الكهربائية.
وكانت الحرب الروسية على أوكرانيا وما تلاها من عقوبات وتغيير كبير في التجارة الدولية بالنفط والغاز قد أدى إلى عشوائية كبيرة في تجارة النفط في عام 2022، لكنها أصبحت أكثر استقراراً في 2023، ولعل من العوامل الجديدة التي أسهمت في الاستقرار قرارات الخفض الطوعي من قبل السعودية وبعض حلفائها.
معضلة المخزون الاستراتيجي
كان الاستشراف السنوي الذي نشرناه في بداية العام دقيقاً بشكل كبير، بخاصة أن التقرير خالف كل التقارير الأخرى في موضوعات الصين، و”أوبك“، وروسيا، لهذا تم التوقع بأن النصف الأول سيكون صعباً، بعكس كثيرين توقعوا ارتفاعاً مستمراً في الأسعار بسبب الانفتاح الصيني واعتقادهم بأن صادرات النفط الروسي ستنخفض بشكل كبير. المشكلة الآن في النصف الثاني من عام 2023، فقد توقعنا انتعاشاً كبيراً في أسعار النفط، بخاصة في الربع الرابع من هذا العام، ولكن حصل أمران لم يكونا في الحسبان، وأفشلا هذه التوقعات جزئياً، الأول قيام الصين بملء المخزونات التجارية والاستراتيجية بشكل كبير لدرجة أن كمية النفط المخزن تجاوزت المليار برميل، واقتربت من مستوياتها التاريخية. والثاني أنه على رغم توقع قيام عديد من دول “أوبك+” بالاستيراد من روسيا نفطاً خاماً ومنتجات نفطية، إلا أن هذه الواردات تجاوزت التوقعات بشكل كبير. هذه التطورات أثرت سلباً في توقعات الربع الرابع من هذا العام والنصف الثاني من عام 2024. لماذا؟
لأن الصين ستستخدم هذه المخزونات الإضافية لمنع أسعار النفط من الارتفاع، أما زيادة واردات دول “أوبك+” من روسيا فإنها خفضت من أثر استخدام النفط في توليد الكهرباء في فصل الصيف، ومن ثم فإنها منعت أسعار النفط من الارتفاع بشكل ملحوظ، على رغم تخفيض الإنتاج.
وتشير التحليلات الإحصائية لواردات النفط الصينية والمخزون وأسعار النفط في السنوات الأخيرة إلى أن الصين زادت وارداتها عندما انخفضت أسعار النفط، وزادت مخزونها، ثم سحبت من المخزون، وخفضت الواردات عند ارتفاع الأسعار، وبذلك منعت أسعار النفط من الارتفاع الشديد. لهذا فإن مشكلة “أوبك+” حالياً هي الصين.
خلاصة الأمر أن أسعار النفط سترتفع، ولكن بمستويات أقل من التوقعات السابقة، وستقوم السعودية بتحديد أرضية الأسعار، بينما ستقوم الصين بتحديد سقف الأسعار. أما بالنسبة إلى ملء إدارة بايدن للمخزون النفطي الاستراتيجي، فإن أثره سيكون محدوداً لأسباب فنية بحتة.