التقارب الصومالي – الإثيوبي: تحالف أم فخ إستراتيجي

كتب عبد الكريم سليمان العرجان في صحيفة العرب.
في منطقة لم تعرف الاستقرار طويلا يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن للصومال أن يحافظ على توازنه دون أن يجد نفسه مقيدا في تحالف لا يخدم سوى الطرف الأقوى.
في أروقة القرن الأفريقي، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية في صراع دائم على النفوذ، يبرز التقارب الصومالي – الإثيوبي كحدث فارق في معادلة القوة، لكنه في جوهره ليس سوى فصل جديد في كتاب الهيمنة والمصالح المتقاطعة. إن التقاء مقديشو وأديس أبابا على طاولة التفاهم لم يكن بدافع التوافق فحسب، بل تحكمه اعتبارات إستراتيجية تعكس معركة أكبر، حيث تتحرك كل قوة وفق مصالحها، مدفوعة بحسابات تتجاوز الجغرافيا المباشرة، وتصل إلى موازين القوى في البحر الأحمر والقرن الأفريقي ككل.
إثيوبيا، العالقة في مأزق جيوسياسي، تدرك أن انعدام منفذ بحري يحاصر طموحاتها الإقليمية، ويقيد مشروعها الاقتصادي والعسكري. اتفاقها السابق مع “أرض الصومال”، الذي واجه رفضا قاطعا من مقديشو، كان تعبيرا صريحا عن حاجتها إلى مخرج، لكنه أيضا كشف عن استعدادها لاختبار الخطوط الحمراء الإقليمية، هذا الاتفاق لم يكن مجرد وثيقة بين طرفين، بل رسالة سياسية لمن يهمه الأمر بأن أديس أبابا ستسعى بأي وسيلة لكسر طوق العزلة البحرية، ولو على حساب العلاقات التقليدية في المنطقة. لكن تحت وطأة الضغط الإقليمي، أعادت إثيوبيا ترتيب أوراقها، لتتجه مباشرة نحو الصومال الرسمي، في خطوة تعكس براغماتية سياسية تدرك أن المصالح تفرض نفسها حتى بين الخصوم، وأن الحلول الدبلوماسية قد تكون أقل تكلفة من المواجهة المباشرة.
في المقابل، يجد الصومال نفسه أمام اختبار تاريخي، حيث الموازنة بين تثبيت سيادته وبين المناورة في ساحة إقليمية تعج باللاعبين الكبار. فبين النفوذ التركي المتصاعد، والتواجد العسكري الغربي، والمصالح الخليجية المتداخلة، يبدو أن مقديشو تحاول استغلال حاجات أديس أبابا كورقة تفاوض، لا لمجرد تحسين العلاقات، بل لفرض شروط جديدة قد تعيد صياغة العلاقة بين الطرفين وفق معادلة أكثر إنصافا للصومال. لكن في منطقة لم تعرف الاستقرار طويلا، يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن للصومال أن يحافظ على توازنه دون أن يجد نفسه مُقيّدًا في تحالف لا يخدم سوى الطرف الأقوى، خاصة إذا تحوّل التقارب إلى تبعية سياسية أو اقتصادية؟
أما القاهرة، التي تتابع المشهد بحذر، فهي تدرك أن أي تغير في توازنات القرن الأفريقي ينعكس مباشرة على أمنها القومي، خصوصا في ظل التوتر المستمر مع إثيوبيا بشأن سد النهضة. فمصر التي لطالما دعمت وحدة الصومال وحكومته المركزية، ترى في هذا التقارب فرصة لإثيوبيا لتعزيز نفوذها في المنطقة، مما قد يؤدي إلى تحجيم الدور المصري وتقليص قدرتها على المناورة السياسية. لذلك، قد تلجأ القاهرة إلى تكثيف تحركاتها الدبلوماسية عبر جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، إلى جانب تعزيز تعاونها مع جيبوتي وإريتريا باعتبارهما نقاط ارتكاز مهمة في مواجهة النفوذ الإثيوبي. كما أن القاهرة قد تعمل على تعميق شراكتها الاقتصادية والأمنية مع مقديشو، لضمان عدم انجراف الصومال إلى تحالف غير متوازن مع أديس أبابا، في ظل إدراكها أن القرن الأفريقي لم يعد مجرد ساحة صراع محلية، بل هو ميدان يتنافس فيه الإقليميون والدوليون على النفوذ الإستراتيجي.
في هذا السياق، يراقب الاتحاد الأوروبي وفرنسا المشهد بحسابات دقيقة. فباريس، التي تملك نفوذا عسكريا واقتصاديا في جيبوتي، تدرك أن أي تحول في موازين القوى في القرن الأفريقي قد يؤثر على إستراتيجياتها البحرية ومصالحها في البحر الأحمر، إذ تعتمد فرنسا على الاستقرار في جيبوتي كقاعدة انطلاق لعملياتها في أفريقيا، وأي نفوذ إثيوبي متزايد قد يثير القلق في باريس، خاصة إذا أدى إلى تغيير في معادلة القوى البحرية في المنطقة. أما الاتحاد الأوروبي، الذي يسعى للحفاظ على استقراره الاقتصادي والتجاري، فهو يدرك أن عدم استقرار القرن الأفريقي قد يؤدي إلى تدفق موجات هجرة جديدة نحو أوروبا، مما يجعله أكثر ميلا لدعم المبادرات الدبلوماسية التي تحافظ على توازن المصالح بين القوى الإقليمية، دون السماح لأي طرف بالهيمنة المطلقة.
أما الصين، فهي الحاضر الصامت في هذه المعادلة. فبكين التي استثمرت المليارات من الدولارات في مشاريع البنية التحتية بإثيوبيا، وتملك نفوذا قويا في موانئ جيبوتي، تراقب التحولات في القرن الأفريقي بحذر. فإثيوبيا تمثل بوابة رئيسية لمبادرة “الحزام والطريق”، وأي تغير في مسارها الجيوسياسي قد يدفع الصين إلى إعادة ضبط علاقاتها في المنطقة. في الوقت نفسه، تحافظ بكين على علاقات متوازنة مع الصومال، حيث تسعى لتأمين مصالحها التجارية والبحرية، ما يجعلها لاعبا غير مباشر في هذا التوازن الجديد.
ومع كل هذه الحسابات، يبقى السؤال مفتوحا: هل التقارب الإثيوبي – الصومالي مجرد خطوة تكتيكية في صراع المصالح، أم أنه نواة لتحالف سيعيد رسم خارطة النفوذ في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية؟