مواقع التواصل “كتف افتراضية” تسند كبار السن.
ربما يكون ألطف ما حققته منصات التواصل الاجتماعي أنها باتت عكازاً يسند وحدة كبار السن، ويخرطهم في التكنولوجيا الجديدة من باب المجتمع.
انضم الأهالي الكبار إلى حلقة حاملي الهواتف بشكل إدماني مع أولادهم وأحفادهم وأقرانهم في اللقاءات ليكتمل مشهد العلاقات الاجتماعية من بوابات الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية.
بعد أن كان استخدام كبار السن لهذه الأجهزة بهدف التواصل، وفي أكثر الأحوال تقدماً بهدف لعب الورق أو التبصير به بألعاب مختلفة، بات اليوم لكثير من كبار السن حسابات خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، فدخلوا في دورة التكنولوجيا الاجتماعية مسلحين بمعرفتهم القديمة، شاخصين على اللحاق بركب السرعة الهائلة لتدفق المعلومات من كل صوب.
سلاح ذو حدين
تنطلق مدربة الصحة الشاملة واليوغا والتأمل نانسي سري الدين من تجربتها الخاصة بقولها إنه بعد وفاة والدها منذ فترة قصيرة حاولت التخفيف عن والدتها بمواقع التواصل الاجتماعي، “لولا (إنستغرام) لكنت جُننت”، بخاصة عندما تكون وحدها.
تضيف نانسي “وسائل التواصل الاجتماعي سيف ذو حدين، ممكن أن تكون بركة ونعمة، أو أمراً سيئاً بحسب الحدود التي نضعها. البعض يستخدمها لينتفع وينفع، فعملي مثلاً يعتمد على منصات التواصل الاجتماعي، وعندما أنشأت حسابات خاصة بالعمل توقفت تقريباً عن النشر على حسابي الخاص، وأصبحت أستخدمها بنية ولهدف، وكل ما نقوم به بنية يأتي بالنفع للغير”.
وتمضي في حديثها “منصات التواصل الاجتماعي فرضت وجودها، وبتنا نحتاج إليها لخلق أي علامة شخصية، لكن المؤسف أن هناك أجندة لوسائل التواصل تتجلى في ضخ معلومات كثيرة مما يجعل لدينا فترة انتباه قصيرة لأننا تعودنا الانتقال من خبر إلى آخر أو من ريل (Reel)إلى آخر، ويدخل إلى دماغنا كثير من المعلومات التي لا نحتاج إلى معظمها”. وتابعت “لأنها موجودة بين أيدينا دائماً خلقت لدينا عادات لا واعية للدخول إليها كل قليل لنتحقق من كل جديد، ولننتقل بسرعة بين الأخبار (scrolling)، وهذا يشتتنا، ويضيع طاقتنا، ويهدر مهاراتنا لأننا نستطيع الاستفادة من هذا الوقت لتحقيق أمور كثيرة. وبالطبع، والأهم أنها تبعدنا عن التواصل مع ذاتنا، لذا علينا رسم حدود صارمة تجاهها، فنحدد وقتاً لاستعمالها ونلتزم به”.
حسابات ملهمة
تنصح مدربة الصحة الشاملة واليوغا والتأمل بمتابعة “حسابات تعلمنا وتلهمنا وترفه عنا، فلا نعلق في المحتوى السخيف الذي يعمل على تخفيض تردداتنا وطاقتنا، ويدخل إلى العقل معلومات سيئة”. وقالت “علينا حماية أنفسنا بتحديد الوقت والمحتوى والشخصيات التي نريد متابعتها. والأمر الجيد في مواقع التواصل أننا قادرون على اختيار ما نريد. وعلينا من دون تردد حذف متابعة ما يزعجنا لأنه يمتص طاقتنا”.
وتشير نانسي إلى أن الدراسات تقول “إن كثرة متابعة وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي إلى الاكتئاب، وإلى نوع من الإدمان مثل أي مادة أو عادة إدمانية أخرى، لذا يجب أن نكون واعين ويقظين في طريقة استخدامها، وإدراك أن وسائل التواصل هي لخدمتنا، وأننا لسنا عبيداً لها”.
مدربة الصحة الشاملة واليوغا والتأمل نانسي سري الدين (اندبندنت عربية)
وتذهب إلى أنه “من الجيد التواصل مباشرة مع الطبيعة ومع الناس الذين نحبهم وننظر في أعينهم. حتى إنني في الصيف الماضي أقفلت حسابي لشهرين لأعيش في الحاضر بكل انتباه مع من حولي، والآن تعلمت كيف أوازن بين الأمرين”.
وحذرت من أن “الاستعمال المفرط لوسائل التواصل يجعلنا لا نعيش حاضرنا جيداً، فحتى لو كنا مثلاً نشاهد فيلماً فإننا نشعر بضرورة التحقق من حساباتنا على وسائل التواصل، فنتفادى ما نقوم به في اللحظة الحاضرة. وأحياناً أكون جالسة مع أمي ونجد أنفسنا كلينا التقطنا هواتفنا بشكل لا واعي”.
جسر تواصل
لكن، وعلى رغم ذلك، فإن نانسي تقول إن والدتها أخبرتها أنها لطالما استفادت من مواقع التواصل الاجتماعي في مجالات عدة.
تعلمت الأم منها تصحيح بعض الحركات الرياضية، وأصبحت تحتفظ بالفيديوهات لتنفيذ الحركات لاحقاً، وتعلمت كيف تتناول المكملات الغذائية في أوقاتها المناسبة، إضافة إلى أمور استشفائية وصحية تعلمتها على “إنستغرام”، لكنها تحزن عندما ترى مواضيع أو صوراً مبتذلة، وتشعر حينها بأنه يضيع وقتها، وأنها تفضل استغلال الوقت بأمور بناءة أكثر لأنها تحب القراءة والكتابة. ومن حسنات مواقع التواصل أيضاً أنها تستطيع التواصل دائماً مع أولادها في الخارج.
تشير إلى أن والدها كان رجل أعمال، ولا يوجد بينهما كثير من المواضيع المشتركة، ولم تكن تجد ما تقوله أثناء حديثهما، لكن بعد دخوله في مواقع التواصل، بدأ يرسل إليها عن المواضيع التي تهمها في الطاقة الإيجابية والاستلهام، مما خلق جسر تواصل بينهما، مختتمة “لا شك أنها تخلق تواصلاً بين الأجيال”.
منقذ من الوحدة
في عمر الـ70 وبعد فترة مرض لسنوات، فقدت إلهام جبيلي زوجها ولم يكن لديها هاتف ذكي، ولا تعرف شيئاً عن مواقع التواصل، فأهداها أولادها هاتفاً وأنشأوا لها حساباً على “فيسبوك”، ليصبح هذا الأمر منقذها من ليالي الوحدة الطويلة.
تشاهد إلهام مقاطع الفيديو وتقرأ المنشورات. أضافت أصدقاءها وأصدقاء أولادها والأقارب إلى حسابها، وبات لديها ما يشبه كتفاً افتراضية تسند وحدتها، ثم بدأت تكتب التعليقات.
باتت مقتنعة بأنها أخطأت مرات عدة فكتبت تعليقاً في مكان خاطئ، وأحياناً أنقصت حروفاً أو جملاً، وكانت تطلب من أبنائها مراجعة ما تكتب أثناء وجودهم. تقول “بت على اطلاع تام بما يجري حولي، فالأخبار موجودة، وطريقة تحضير طبخات عديدة، وأخبار الأصدقاء، ونعي بالوفيات وتبريكات بالزواج والنجاح والإنجاب، وأصبحنا نرى الأطفال الذين نعرفهم يكبرون أمام أعيننا على الشاشة”.
اليوم تشعر إلهام بالنقص إذا لم يكن هاتفها معها، وتقول إن كم المعلومات الذي تراه كل يوم مذهل، فيه الجيد وفيه الكاذب، وإن انخراطها هذا بوسائل التواصل جعلها أقرب إلى أولادها والعالم حولها.
أكثر تركيزاً
قصة أخرى تقف خلفها ماري ضو وترتبط بوالدها (80 سنة) الذي بات أكثر تركيزاً عندما بدأ باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي منذ سنتين، على رغم انزعاجه من كثرة المعلومات التي كان يظنها موجهة له (ما يظهر في feeds من كل ما يكتبه الأصدقاء والصفحات المتابع لها).
كان في البداية يشعر بالعبء، وعندما فهم الفكرة، أصبح أكثر انسجاماً، لكنه يأبى إلا أن يرد الإعجاب بإعجاب، ويشعر كأن هذا العالم الافتراضي الذي لا يعرف معظمه، كأنهم جيرانه ولديه واجبات اجتماعية تجاههم.
وتقول “بعد رحيل أمي شعرنا وكأنه استسلم، ولم يعيده إلى التفاعل إلا وسائل التواصل. بدأت الأمور بالرد على التعازي بوالدتي، إلى أن تعلق بـ(فيسبوك)، وبات يقرأ تعليقات الناس لبعضها البعض ويرد عليها، إلى أن التزم الرد على حسابه. لا شك أنه كانت بمثابة قارب النجاة للانخراط مجدداً في الحياة”.
فوائد نفسية
يحمل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من قبل كبار السن في طياته عديداً من الفوائد، ويعمل كأداة قيمة للتواصل والمشاركة، فتسهم في تقليل العزلة، وتوفر فرصاً للمسنين للتواصل مع العائلة والأصدقاء والمجتمعات، بخاصة عندما يشكل بعد المسافة أو صعوبة التنقل إلى تقييد تفاعلاتهم. وتساعد في مكافحة الشعور بالوحدة التي يمكن أن يكون لها آثار سلبية على الصحة الجسدية والعقلية.
وتعتبر هذه المنصات فرصة جيدة لتبادل الخبرات والذكريات، إذ تتيح لكبار السن مشاركة تجاربهم الحياتية وقصصهم وذكرياتهم مع الآخرين. وهذا من شأنه أن يساعد في سد الفجوات بين الأجيال وإنشاء روابط بين الأجيال مع أفراد الأسرة والأصدقاء الأصغر سناً.
تساعد في الوصول إلى قدر هائل من المعلومات والموارد التي يمكن أن تفيد كبار السن، كالأخبار والمعلومات المتعلقة بالصحة والمحتوى التعليمي وسواها من المعلومات المفيدة والترفيهية. وتشكل تحفيزاً معرفياً من خلال أنشطة مختلفة، مثل القراءة والكتابة وحل المشكلات والمشاركة في المناقشات. ويمكن أن يساعد ذلك في الحفاظ على التيقظ العقلي والمعرفي، إضافة إلى الشعور بالمتعة في تقديم المشورة أو الرأي أو التجربة.
ما سبق كان نتائج لدراسات وأوراق بحثية عديدة نشرت مواقع في الولايات المتحدة والصين. وأشارت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تعزز الرفاهية العامة، وتقلل الاكتئاب والشعور بالوحدة، وتحسن احترام الذات، وتزيد من الدعم الاجتماعي.
وعلى رغم ذلك يوجد سلبيات تتعلق بالخصوصية، حيث يكون كبار السن أكثر عرضة لمشاركة معلومات شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، يجعلهم ضحية أسهل للسرقة أو الاحتيال، إضافة إلى الإدمان، خصوصاً بالنسبة لكبار السن الذين قد لا يكون لديهم عديد من الأنشطة الأخرى لملء وقتهم، ويمكن أن يؤدي هذا إلى مشكلات مثل العزلة الاجتماعية وانخفاض الإنتاجية. كما قد لا يكون يسيراً على كبار السن التأكد من صحة الأخبار عبر البحث في عدة مواقع موثوقة، فيقعون ضحية أخبار كاذبة أو مضللة، ولكن فوائد مواقع التواصل على المسنين تدعو ربما إلى إقامة دورات خاصة بفهمها وتطبيقها في دور المسنين لتملأ فراغ وقتهم وروحهم، وتردم هوة الاشتياق إلى العائلة والشريك والأصدقاء بواقع افتراضي قد يشبه العناية التلطيفية. وقد يكون من الجيد إيجاد مبادرات كهذه، وتفعيل الدراسات حولها.
في حين تلعب وسائل الاتصال الاجتماعي دوراً في انفتاح كبار السن على العالم ورمي المعلومات في أحضان هواتفهم، إلا أنها قد تحد من انطلاقة الشباب في الحياة الفعلية إذا كانوا أسراها أو مدمنيها.