رأي

حرب غزة وإعادة التركيز الأميركي في المنطقة

كتبت د. نورة صالح المجيم في صحيفة القبس.

تصرفت واشنطن وبسرعة فائقة عقب عملية طوفان الأقصى بصورة لم تعهدها في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. إذ للمرة الأولى منذ انخراطها في المنطقة ترسل أكبر حاملة طائرات، ثم تقوم بإرسال حاملة طائرات أخرى. وللمرة الأولى يقوم رئيس أميركي بزيارة إسرائيل بعد أسبوع فقط من تورط إسرائيل في حرب إقليمية، إذ لم يحدث ذلك بعد حرب أكتوبر عام 1973. هذا فضلاً عن الكم الهائل من الأسلحة المتطورة خاصة بطاريات الصواريخ التي أرسلتها واشنطن لإسرائيل.

ومن المؤكد أن هذا التركيز العسكري القوى والسريع لواشنطن قد عنى في المقام الأول حماية إسرائيل؛ لأنها تستشعر أن إسرائيل قد أضحت تواجه تهديداً وجودياً. لكن فضلاً عن ذلك، ثمة حسابات كثيرة متداخلة تكمن وراء هذا التركيز القوى الذي يبدو أنه سيدوم لفترة. وضعت الولايات المتحدة ثلاثة أهداف استراتيجية واضحة من حضورها القوي في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهما حماية أمن إسرائيل، الهيمنة على نفط المنطقة، ومحاصرة الشيوعية. بدأ منذ إدارة أوباما عام 2009 تخفيف التركيز أو الاهتمام الأميركي في المنطقة، وليس الحضور العسكري، لأسباب شتى على رأسها تراجع أهمية المنطقة ولا سيما نفط المنطقة لواشنطن، ولعل الأهم صب جل التركيز على آسيا للتصدي للتهديد الصيني.

وفيما يتعلق بحماية أمن إسرائيل، فقد اهتدت واشنطن وخاصة إدارة أوباما أن حماية أمن إسرائيل يستند إلى استمرار الحضور العسكري في المنطقة، وإبرام صفقة مع إيران لاحتوائها، كونها تعتبر التهديد الرئيسي لأمن إسرائيل في المنطقة.

فور اندلاع الحرب الأوكرانية وتحديداً تفشى أزمة الطاقة، قد تأكدت واشنطن أنها قد ارتكبت خطأ استراتيجياً فادحاً بإهمالها المنطقة. فخلال فترة الإهمال التي استمرت نحو عقد، ملأت منافستها الرئيسية الصين هذا الفراغ عبر مبادرة الحزام والطريق والحضور الاقتصادي المكثف، وتحول حلفاؤها الرئيسيون عنها خاصة السعودية أهم حليف لها في المنطقة، وتمدد النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل مفزع.

ومن ثم، بدأت إدارة بايدن العمل عن كثب لتصحيح هذا الخطأ، وكان من أبرز شواهد ذلك زيارته الشهيرة للمنطقة في يوليو 2022 التي ألقى فيها خطاباً تاريخياً يؤكد فيه استمرار التواجد الأميركي في المنطقة. والشاهد الأهم الآخر هو ترويج الإدارة الأميركية قبل أسابيع من «طوفان الأقصى» للممر الاقتصادي الجديد الرابط بين الخليج والهند لأوروبا، في مسعى لتقويض النفوذ الصيني في المنطقة.

وعلى إثر ما تقدم، يمكن القول إن «طوفان الأقصى» تشكل حدثاً فارقاً لواشنطن لإعادة تركيزها القوي في المنطقة، ربما بصورة أكبر من قبل 2009. كما أشرنا أن «طوفان الأقصى» قد أثبتت لواشنطن أن إسرائيل في تهديد وجودي يستلزم حضورا عسكريا مكثفا. حيث انكشفت هشاشة نظرية الردع الإسرائيلي أمام خصومها خاصة إيران.

فضلا عن ذلك، أفشلت «طوفان الأقصى» مخططات واشنطن لإعادة رسم المنطقة وعلى رأس تلك المخططات عملية التطبيع الشامل بين إسرائيل والدول العربية. ومن ثم، فالحضور العسكري القوي يستهدف على المدى المتوسط إعادة إحياء عملية التطبيع في حال انتهت أزمة غزة.

تبغي واشنطن أيضاً من الحضور القوي، تقويض تشكيل حلف قوي في المنطقة يضم الصين وروسيا وإيران. إذ قد أدركت تماماً مدى أهمية المنطقة في سياق صراع التوازنات الدولية مع أهم خصومها وخاصة الصين. فضلاً عن ذلك، ستسعى واشنطن بكل تأكيد من حضورها القوي في المنطقة إلى الضغط على إيران لإجراء تسوية مشروطة للبرنامج النووي.

ملخص القول، دفعت الحرب في غزة الولايات المتحدة دفعاً إلى إعادة تركيزها في المنطقة الذي من الواضح أنه سيدوم. فالولايات المتحدة لا تسعى إلى إشعال حرب في المنطقة، ولعل ذلك من أبرز أسباب إعادة تركيزها القوي لضمان الردع والاستقرار، بل قد تيقنت أن ضمان أمن إسرائيل الهش، واستمرار الهيمنة على النفط، وتقويض النفوذ الصيني، والتصدي للنفوذ الإيراني، وحركات المقاومة المسلحة، وإحياء التحالفات التاريخية، تستلزم إعادة التركيز العسكري القوى.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى