رأي

شعبويّة بلا مشروع وميليشياوية بلا سلاح: خطاب الخوف يعيد إنتاج الزعماء

كتب المحامي يوسف بهاء الدويهي:

في المشهد اللبناني الراهن تتجسّد ظاهرة مركّبة تجمع بين الشعبوية السياسية والاحتكار الطائفي، وهي وإن بدت في ظاهرها مجرد أدوات انتخابية أو خطابية، فإنها في جوهرها استمرار للمنطق الميليشياوي الذي حكم البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية. الميليشيا هنا لم تعد دائماً تحمل السلاح، بل تحوّلت إلى ذهنية سياسية تمارس سلطتها عبر الرمز والكلمة والشرعية الانتخابية.

في ظلّ فراغ الدولة وتراجع الثقة بالمؤسسات، تلجأ بعض القوى إلى خطابٍ مبسّط يُعيد رسم الصراع الوطني في ثنائيات حادّة: الدولة في مقابل الدويلة، والسيادة في مقابل الخضوع. هذا الخطاب يُغري الجمهور المرهق من الأزمات لأنه يقدّم له عدوّاً واضحاً ويمنحه شعوراً مؤقتاً بالانتماء إلى “الحق”، غير أنّه في العمق يعفي تلك القوى من تقديم برامج إصلاحية واقعية، ويغذّي بدلاً من ذلك منطق الغرائز الجماعية على حساب العقل السياسي. فالشعبوية في هذا السياق تتحوّل من وسيلة للتعبير الشعبي إلى أداة لإعادة إنتاج الولاء، إذ يُطلَب من المواطن أن يتماهى مع زعيمه لا مع مؤسسات الدولة.

أما الزعيم اللبناني فيستمدّ وجوده من احتكار التمثيل داخل طائفته، لا من شرعية ديمقراطية وطنية. ويُقدَّم أي خلاف داخلي على أنه خطر على الوجود، وتُعتبر الأصوات المعارضة تفريطاً بالثوابت. هكذا يتحوّل الولاء إلى شكل من أشكال الحماية الجماعية، ويغدو الزعيم حارس الهوية لا ممثلاً سياسياً. إنّ هذا المنطق يعيد إنتاج الزبائنية، ويحوّل الطائفة إلى وحدة انتخابية مغلقة، فيما تتآكل الدولة كإطار مشترك للحياة السياسية.

وحين تُنزَع الأسلحة المادية، تبقى أسلحة الخطاب والرمز. تستبدل بعض القوى بندقية الأمس بشعار السيادة أو الهوية أو التاريخ، وتنتقل الميليشيا من الميدان إلى المنبر، لكنها تحتفظ بالخصائص ذاتها: الانضباط، التبعية، واحتكار القرار. إنها ميليشياوية بلا سلاح، تمارس سلطة رمزية باسم الشرعية، وتعيد إنتاج الإقطاع السياسي بأدوات مدنية. ولأنها لا تُحاكم قانوناً، فهي أكثر قدرة على التغلغل داخل مؤسسات الدولة وعلى تعطيلها في الوقت نفسه.

بين سلاحٍ ماديّ يفرض معادلاته بالقوة وسلاحٍ رمزيّ يحتكر الشرعية باسم الطائفة، تُترك الدولة في موقع الوسيط العاجز، تسعى إلى التوازن بدل السيادة، وإلى تدوير الزوايا بدل حسم القرار. وهكذا يتكرّس النظام الطائفي كشبكة من الزعامات المتقابلة، كلّ منها يتغذّى من خوف الآخر، فيستمرّ الانقسام كشرطٍ لبقاء الجميع.

الميليشياوية في لبنان لم تمت، بل غيّرت وجهها. تخلّت عن المظهر العسكري لتتحوّل إلى سلطة رمزية–انتخابية تستثمر في الانتماء أكثر مما تؤمن بالمواطنة، وتستمدّ قوتها من الطائفة لا من القانون. ولعلّ الخلاص لا يبدأ إلا حين يستعيد اللبنانيون المعنى البسيط للدولة: أن تكون المرجعية الوحيدة للسلاح، وللكلمة، وللتمثيل معاً.

المحامي يوسف بهاء الدويهي

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى