اكتشافات المعادن جديدة قد تغير مسار حرب التقنية بين واشنطن وبكين
برزت تساؤلات حول تأثير مناجم المعادن الأرضية النادرة على مسار حرب التقنية الفائقة بين بكين وواشنطن. إذ تسيطر حالياً الصين على 90% من إنتاج المعادن النادرة، بينما تسيطر واشنطن على تقنية الشرائح الذكية عالية الدقة. وفي ذروة السباق الجاري حالياً بين التنين الصيني والعم سام على أدوات صناعة المستقبل، حدث اكتشاف كبير في النرويج بجزيرة غرينلاند.
ووفق تقرير بنشرة “أويل برايس”، في منتصف يونيو/ حزيران، كشفت شركة التعدين النرويجية Rare Earths عن أحد أكبر رواسب العناصر الأرضية النادرة في أوروبا في مجمع Fen Carbonatite في جنوب البلاد. وذكرت مجلة فورتشن أن هذا الاكتشاف مهد الطريق للتعدين البحري للمعادن النادرة في المياه الشمالية النائية للنرويج ، ما جعل النرويج أول دولة في أوروبا تسمح بمثل هذه الأنشطة التعدينية في قاع البحر. وفي الوقت نفسه، أعلنت شركة Critical Metals Corp الأميركية عن صفقة استحواذ على أكبر مستودع للمعادن الهامة في العالم، في غرينلاند.
وفي العاشر من يونيو، وقعت شركة Critical Metals Corp اتفاقية للاستحواذ على حصة مسيطرة في منجم تانبيرز ـ Tanbreez في غرينلاند، والذي تقول إنه أكبر مستودع للمعادن النادرة في العالم. وتتوقع شركة المعادن النادرة التي يرمز إليها بـCRML، أن يتمكن هذا المنجم من تزويد أوروبا وأميركا الشمالية بهذه الأتربة التي كانت تعتمد على توريدها من الصين. وفي 18 يونيو الجاري، أعلنت الشركة أنها أكملت استثمارها الأولي في عملية الاستحواذ على Tanbreez، وهو ما أضفى مزيدًا من الثقة على الصفقة ومزيدًا من تقليل مخاطر الصفقة، وفقًا لبيان صحافي للشركة.
ويقال إن Tanbreez لديها أكثر من 28 مليون طن من إجمالي أكاسيد الأرض النادرة، وفقًا لتقديرات الشركة، وما يقرب من 30% منها من العناصر الأرضية النادرة “الثقيلة” المرغوبة في التقنيات الحديثة.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة CRML توني سيج في بيان صحافي: “إن منجم تانبريز للمعادن النادرة سيغير قواعد اللعبة بالنسبة للغرب، ويمثل خطوة رئيسية في أن تصبح الشركة مورداً رئيسياً للمعادن الاستراتيجية في صناعة المستقبل”.
استخدامات المعادن النادرة
تُستخدم المعادن الأرضية النادرة في معظم الإلكترونيات، وبدونها لن يكون هناك تحول إلى الطاقة النظيفة، وستجد الولايات المتحدة نفسها في وضع غير مؤاتٍ في مجال الأسلحة، وهي فكرة مخيفة في وقت الاضطرابات الجيوسياسية المنتشرة في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط.
وهذا يجعل الاكتشافات الأوروبية الجديدة لمناجم المعادن النادرة أكثر أهمية في الصراع الدائر بين الغرب وتحالف “بكين ـ موسكو”، الذي يرغب في تغيير النظام العالمي القائم، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، إلى نظام متعدد الأقطاب. ولهذه الأهمية تتطلع شركة Critical Metals إلى أن تصبح واحدة من أهم شركات التعدين في هذا العقد. وبينما تعتبر المعادن الثقيلة الحرجة بمثابة “أوزة ذهبية” في مجال التعدين اليوم، تستعد شركة Critical Metals أيضًا لتطوير منجم “ولف سبيرغ ليثيوم” في النمسا، وهو أول منجم لليثيوم مرخص بالكامل في أوروبا.
يذكر أن إدارة بايدن وقعت في أغسطس/ آب على قانون الرقائق والعلوم ليصبح قانونًا لتعزيز التصنيع المحلي لأشباه الموصلات وتقليل الاعتماد على الصين. وجاءت هذه الخطوة ردا على تحرك بكين لتشديد صادرات العناصر الأرضية النادرة، مثل الغاليوم والجرمانيوم والغرافيت. وفي أواخر عام 2023، شددت بكين الضوابط على صادرات العناصر الأرضية النادرة ثم حظرت تصدير تكنولوجيا استخراج العناصر الأرضية النادرة.
ويقول تحليل بموقع “إنتر إيكونومكس”، المتخصص في الأبحاث والدراسات الاقتصادية، إن النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين وصل إلى نقطة أصبحت معها القيود المفروضة على الصادرات من العناصر الأرضية النادرة وسيلة محتملة لفرض العقوبات. وقالت الصين في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2019، إنها ستستخدم هيمنتها على سوق إنتاج المعادن النادرة في الحرب التجارية مع واشنطن. كما أعلنت اللجنة الوطنية الصينية للتنمية والإصلاح عن عزمها على تعزيز سيطرتها على تصدير العناصر الأرضية النادرة. كما علقت العديد من الصحف القريبة من الحزب الشيوعي بأن الحكومة الصينية تدرس جديًا منع صادرات العناصر الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة.
ما هي المعادن النادرة هذه؟
الأتربة النادرة أو المعادن الأرضية النادرة هي مجموعة من 17 عنصرًا لها خصائص متشابهة. وهي تتألف من مجموعة اللانثانيدات بالإضافة إلى عنصري السكانديوم والإيتريوم. وعادة ما يتم تصنيفها على أنها عناصر أرضية نادرة خفيفة وعناصر أرضية نادرة ثقيلة، ويتم إنتاج الأخيرة بكميات أقل ويتم تداولها بأسعار أعلى. كما يتم استخدام حوالي ثلث إجمالي إنتاج مناجم الأرض النادرة لإنتاج المغناطيس الدائم. وأصبحت الأتربة النادرة عناصر حاسمة للتكنولوجيات الحديثة، مثل توربينات الرياح ومكيفات الهواء والعديد من الأجهزة المنزلية والكهرباء.
ووفق دراسة “إنتر إيكونومكس”، تشير التقديرات الأخيرة إلى أن أكثر من 90% من جميع السيارات الكهربائية المباعة في العالم مجهزة بمحركات كهربائية تستخدم مغناطيس “ندفيب” الدائم، وهو ما يجعلها التكنولوجيا المهيمنة إلى حد بعيد. وبالإضافة إلى ذلك، تستخدم السيارات الكهربائية الهجينة في كثير من الأحيان هيدريد معدن النيكل في البطاريات لتخزين الطاقة. تعتبر هذه السبائك المعدنية تطبيقًا مهمًا آخر للأتربة النادرة.
كما تستخدم المعادن النادرة كمحفزات لتكرير البترول في صناعة النفط لتحسين عمليات التكرير. وتشمل التطبيقات الأخرى مسحوق تلميع لمعالجة الأسطح، والفوسفورات التي تسمح بإضاءة موفرة للطاقة من خلال مصابيح LED الموجودة في الهواتف الذكية وشاشات الكمبيوتر المحمول وأجهزة التلفزيون ذات الشاشات المسطحة، كما تعتبر ذات أهمية كبيرة في الصناعات العسكرية الأميركية. ووفق دراسة “إنتر إيكونومكس”، فإن معظم العناصر الأرضية النادرة تعاني من نقص شديد في المعروض مقارنة بالطلب العالمي. ويمكن تفسير النقص بسبب تطور سوق التقنية وتعدد استخداماتها في الآونة الأخيرة.
حصة الصين من المعادن النادرة
دخلت الصين سوق العناصر الأرضية النادرة في منتصف الثمانينيات، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة المنتج الرئيسي، لكن الصين سرعان ما لحقت بالركب وأصبحت رائدة في إنتاج العناصر الأرضية النادرة. وكانت استراتيجيتها المدعومة بشدة من الدولة تهدف إلى السيطرة على صناعة العناصر الأرضية النادرة على مستوى العالم. ولم يتمكن الإنتاج الأميركي من منافسة خطوات الصين السريعة في الإنتاج. وتتفوق الصين على أميركا في تكاليف العمالة الرخيصة ومعايير حماية البيئة المنخفضة.
تشمل الأعباء والأضرار البيئية المرتبطة باستخراج وفصل ومعالجة العناصر الأرضية النادرة تلك الناجمة عن العناصر المشعة اليورانيوم والثوريوم بالإضافة إلى الأحماض المختلفة. إن اعتماد الحماية البيئية اللازمة سيكون مكلفاً بالنسبة لمناجم الأرض النادرة في الولايات المتحدة. وبلغت القوة السوقية للصين ذروتها في الفترة 2010/ 2011 عندما وصلت إلى حصة سوقية تبلغ حوالي 97% من إجمالي إنتاج المعادن الأرضية النادرة.
وخارج الصين، لم يكن هناك أي منتجين آخرين تقريبًا. ومنذ ذلك الحين، تم تطوير مشاريع جديدة لاستخراج المعادن النادرة في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى انخفاض حصة الصين في السوق بشكل طفيف إلى حوالي 70-80%. ومع ذلك، فإن مكانة الصين القيادية الشاملة في سوق العناصر الأرضية النادرة لا تزال بلا منازع. وعلى مدار العقود القليلة الماضية، أصبحت الصين أيضًا رائدة تكنولوجية في فصل ومعالجة العناصر الأرضية النادرة.
وتتم جميع عمليات معالجة الخامات الأرضية النادرة المستخرجة في العالم تقريبًا في الصين حالياً. وتنتج الصين حوالي 90% من أكسيد الأتربة النادرة. إضافة إلى ذلك، فإن خروج الولايات المتحدة من أفغانستان سيمكن الشركات الصينية من استخراج المعادن النادرة في أفغانستان التي تقدر بمبالغ تراوح بين تريليون وثلاثة تريليونات دولار.
ويقول خبراء إنه في السنوات الأخيرة بات كل شيء يدور حول الرقائق الدقيقة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي (AI)، والدفاع العسكري، التي تستخدم الشرائح عالية الذكاء، والتي لا يمكن صناعتها بدون العناصر الأرضية النادرة. ولهذا السبب فإن عملية الاستحواذ على منجم Tanbreez مهمة للغاية لواشنطن وحلفائها. وتم وضع المنجم ليصبح سلسلة توريد رئيسية للعناصر الأرضية النادرة في الدول الغربية في مواجهة الحكومة الصينية التي لديها القدرة على تعطيل توافر جميع المعادن المهمة إذا حمي وطيس الحرب الباردة بينها وبين واشنطن.