فرنسا تفرض سيطرتها على الضواحي وتبحث عن حلول لمشكلات شبانها.
فاجأت موجة الشغب والفوضى التي عمت فرنسا إثر مقتل الشاب نائل مرزوقي على يد شرطي، بعد عدم امتثاله للأوامر إثر مخالفة مرورية، المجتمع الفرنسي بعنفها وانتشارها كالنار في الهشيم.
وشارك بأعمال العنف أطفال لم تتجاوز أعمارهم الـ11 سنة، كما أن مشاهد السرقة والنهب والحرق وإلحاق الأضرار بالمؤسسات والممتلكات العامة والخاصة، وسرقة المتاجر والعلامات الفاخرة، تركت أكثر من علامة استفهام. هل هو الثأر لشاب شعروا أنه يمثلهم أم إنها فرصة لصب غضبهم وحقدهم على مجتمع يعتبرونه عدوهم؟ وما الذي يشكل الاختلاف الفرنسي في التعبير عن الغضب؟ ظاهرة لم تعرفها البلدان المجاورة بهذا العنف. هل هو الفقر أم الفوارق الاجتماعية والشعور بالغبن والحرمان؟
تساؤلات قسمت الطبقة السياسية والرأي العام وفتحت الجدل بعد هدوء الأزمة والاطلاع على حجم الأضرار التي قدرت بأكثر من مليار يورو، كما أن حل الأزمة تم بتضافر عوامل عدة منها التدابير الحازمة التي اتخذتها السلطات، إذ بلغ عدد الموقوفين أربعة آلاف شخص، إلى جانب نقص الذخائر التي استعان بها المخربون، ومطالبة الأهل بممارسة سلطتهم، والتلويح بتغريمهم عبر قطع المساعدات الاجتماعية، أما العامل الأهم فيكمن في ما تم تداوله عن تدخل الإسلاميين وزعماء عصابات المخدرات لتهدئة الأوضاع. نبأ تداولته كل وسائل الإعلام ولم يشأ وزير التحول المناخي كريستوف بيشو الجزم حياله أو استنكاره.
فهؤلاء تأثرت تجارتهم بهذه الاضطرابات بحسب تعبير فريديريك بلوكان، الذي خصص كتاباً حول عصابات المخدرات في فرنسا بعنوان “تجار المخدرات الفرنسيين يكسرون حلقة الصمت”، إذ اعتبر في مداخلاته التلفزيونية ومقابلة مع مجلة “ليون كابيتال”، أنه “كما في عام 2005، هناك انطباع أن بعض مسؤولي الدين، وبالطبع ليس الجميع، الذين يغذون الكراهية وينفخون في الجمر. هؤلاء لديهم مصلحة بممارسة سلطتهم ومحاولة فرض قانونهم. يمكن القول إن المنافسة تدور بين هاتين الدائرتين، فالنموذجان يتقاطعان”.
وتحولت الأحداث إلى نقطة جدل بين السياسيين، وظهر الاختلاف أيضاً في تحليل أسباب ما وصلت إليه هذه الضواحي، فما الأسباب وراء فشل كل سياسات الدمج والتأقلم التي كلفت المليارات منذ عقود؟ محاولات فهم وتمحيص ما شهدته فرنسا ستحتل حيزاً مهماً ولوقت طويل، في دوائر اتخاذ القرار السياسي وفي الفضاء الإعلامي.
وتجد فرنسا نفسها اليوم بين تيارين متناقضين في تفسير ما جرى. فأقصى اليمين يدعو إلى “صحوة” للدفاع عن الهوية الوطنية التي تهددها موجات الهجرة، وأقصى اليسار يعتبر أن ما حدث تتحمل مسؤوليته سياسات الإقصاء واستبعاد أبناء المهاجرين من الانخراط في الدورة الاقتصادية، فنسب البطالة بين هذه الفئة تبلغ أضعاف ما هي عليه بين الشباب على الصعيد الوطني.
ولم يتردد البعض في التهويل بأن ما حصل ينذر بحرب أهلية قد تفاجئ الجميع بقرب حدوثها، على غرار ما صرح به المستشار الخاص السابق للرئيس نيكولا ساركوزي، هنري غينون لصحيفة “لوفيغارو” إذ قال إنها “حالة تنذر بمؤشرات حرب أهلية، ومن الساذج مواصلة رفض الإقرار بالواقع. أعمال الشغب تشكل إشارة مسبقة تنبئ بما ينتظرنا في حال إصرارنا على رفض الإقرار بأن مجتمعنا على شفير القطيعة”.
من ناحية ثانية، اعتبر بوعلام صلصال، الكاتب من أصول جزائرية، في تحليل نشرته مجلة “فالور اكتويال”، التي تعبر عن وجهة نظر أقصى اليمين، أن ما تشهده فرنسا “هو حرب المستعمرات السابقة التي ستتواصل فصولها”. واستطرد في تحليل مطول، معبراً عن خشيته من “تكرار النموذج الجزائري في فرنسا”، وصوب أصابع الاتهام إلى الإسلاميين الذين بات لديهم اقتصادهم الخاص داخل بعض مدن الضواحي فهؤلاء بات لهم اقتصادهم الخاص “وهم على أهبة أن يصبحوا دولة داخل الدولة”، التي يخافها ويخشاها السكان، فهم الذين يطبقون قرارات الطرد من المساحة التي يسيطرون عليها، كل من يخالف قراراتهم وسلطتهم. ويعتبر صلصال أن “الحل يكمن في انتفاضة في وجه هؤلاء لإعادة بسط سلطة الدولة وهيبتها”.
خطط الإصلاح المتعاقبة
وحاولت فرنسا على الدوام إيجاد حلول للضواحي منذ عقود، ووضعت لها خطط إصلاح وتنمية متعاقبة كلفت المليارات لكنها لم تكن كافية لأسباب عدة، منها ما يتعلق بتدابير الدمج، ومنها ما يعود لأسباب ثقافية اجتماعية، من تقاليد وعدم قدرة الأهل على مواكبة أطفالهم في تحصيلهم العلمي وفرض قيود ملزمة.
وفي البحث عن أسباب الإخفاقات في سياسة المدينة المتعاقبة ومحاولات الانصهار والدمج يذهب البعض إلى اعتبار أن الخصائص المميزة لهذه الضواحي الحساسة، يعوق اندماجها، معللاً بأن الشعور بالانتماء الوطني لدى هذه الفئات، أضعف مما لدى المكون الأصلي أو المتحدرين من دول الاتحاد، بسبب اختلاف العادات ونمط العيش، عما هو في بلدانهم الأصلية، مما يولد صعوبة بالاندماج، إضافة إلى التمييز الذي يطالهم في رحلة البحث عن فرص عمل، والسكن ووجودهم بشكل مكثف في بقعة جغرافية محددة، مما يولد تقوقعاً إثنياً ودينياً ويعمق الهوة بين من هم “البيض والسكان الأصليين” و”نحن المهاجرين”، بحسب تحليل جيروم فوركيه في مجلة “لوبوان”.
لكن هل هذا يعني أنه محكوم على أبناء هذه الطبقات بالفشل؟
على رغم غياب إحصاءات تستند إلى الانتماء العرقي لكن الهوة تبقى كبيرة بين شبان الضواحي من باقي فئات المجتمع، وهي أوسع في فرنسا مما في باقي الدول المتقدمة بحسب ما أظهرت دراسة مشتركة بين منظمة التعاون والتنمية، والمفوضية الأوروبية، والتي صادف نشرها أسبوعين قبل بدء الأحداث، إذ أشارت إلى أن فرنسا هي البلد الذي يقدم الظروف الأقل حظاً سواء بالوصول إلى سوق العمل ومستوى الأجور وظروف الفقر. ووجود من هم دون سن الـ35 بلا عمل، وخارج إطار الدراسة أو التدريب.
ما يعيد طرح السؤال بشكل آخر، لماذا لم ينجح النموذج الفرنسي في صهر وإدماج المهاجرين؟ علماً أن ما تشهده فرنسا من أعمال عنف متكرر لا يرادفه مثال في الدول الأوروبية الأخرى.
الصحافي في مجلة “لوبوان”، جان لوك دوباروشيز، لخص المشكلة في ثلاثة أسباب، إذ اعتبر أنه يجب البحث عن السبب في سياسة الدمج، فسياسة تخصيص مبالغ خيالية لشراء الهدوء والنظام ليست مجدية، والدليل على ذلك المليارات التي تم تخصيصها للضواحي منذ أحداث عام 2005. ويقارن دوباروشيز بين النموذج الألماني الذي يصفه بأنه “آلة حقيقية للدمج”، حيث يتم توزيع المهاجرين القادمين إلى البلد على كل الأراضي بدل حصرهم وتكثيفهم في مساحة موحدة تتحول إلى أحياء “غيتوهات”. إضافة إلى تعليمهم اللغة، ومنحهم السكن ودمجهم في سوق العمل، الذي يشكل العامل الأهم في عملية الدمج، ويتم ذلك بفضل دورات تدريبية وتعليمية مكثفة، هناك مهمة تتحملها الدولة والإدارات المحلية والجمعيات والكنائس، المجتمع بأكمله يستنفر “لإنجاح الدمج” بحسب دوباروشيز، هذا لا يعني أن الحوادث بين الشبان والشرطة غير موجودة، لكن الميزة الفرنسية تكمن بعدم منح فرصة للشباب، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالشبان من أصول مهاجرة.
ويشير إلى أن نسبة البطالة بين هذه الفئة العمرية في ألمانيا هي عند مستوى 6.1 في المئة لكنها تصل إلى 16.9 في المئة في فرنسا وتتعدى الـ40 في المئة في أحياء الضواحي.
الجدير ذكره هو أن مفهوم أو عبارة “الدمج والانصهار” أثارت على الدوام جدلاً واسعاً في فرنسا، فالانصهار عبارة راجت في بداية الألفية حين احتد الجدل حول الإسلام، الذي أشعلته قضية حجاب فتاة وذلك قبل ظاهرة الشادور والقميصة، التي أيضاً باتت اليوم قضية في المدارس حيث يأتي بعض التلاميذ بلباس إسلاموي. وعبارة الانصهار كما أورد مقال في جريدة “لوموند”، بتاريخ 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 يذكر بالفترة الكولونيالية ونظام نابليون الثالث، حيث “درج الحديث عن الانصهار الكولونيالي”، أي ذوبان الهويات الأخرى في بوتقة النظام الكولونيالي (الاستعماري)، ثم عاد للظهور ما بين الحربين في التطرق إلى موضوع الجنسية أو الحصول على الجنسية، وورد في التعميم رقم 1927 كلمة “انصهار” أي “استيعاب وامتصاص كامل وكلي للعناصر الأجنبية في الأمة”، وهي عبارة استخدمها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في عام 2006 لمناسبة إطلاق حملته الانتخابية، الانصهار يجب ألا يكون خياراً أو احتمالاً، بل شرطاً أساسياً لكل طالب إقامة طويلة الأمد أو متقدم للحصول على الجنسية الفرنسية. وساركوزي كان أكثر رئيس تحدث عن الهوية والتأقلم. أن ينصهر المرء في الهوية الفرنسية يعني اضمحلال كل مكونات هويته الأصلية من دين وعادات وتقاليد، في حين كان الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك يصر على التنوع الذي سيضيف إلى النسيج الاجتماعي والمجتمع الفرنسي في رسالته إلى المجنسين الجدد.
وتلا ذلك الحديث عن اندماج في المجتمع بدل الانصهار التام، وفي هذا السياق جاء استصدار العقد الذي يوقعه المهاجرون الجدد، “عقد الاستقبال والاندماج” وهو عقد متبادل بين الدولة المضيفة والقادم الجديد، وفيه تتعهد الدولة بتقديم دروس اللغة مجاناً ويوماً كاملاً للتوعية المدنية والتربية المدنية، وفي المقابل يتعهد المهاجر الجديد احترام مبادئ المجتمع الفرنسي وقيمه، لكن هذا العقد لم يأت بالنتائج المرجوة، إذ تشير دراسة أجراها معهد “العلوم السياسية” إلى أن مختبر الدراسات لتقييم السياسات الحكومية، قال إن العقد لم ينل الأهمية الكافية لتنامي اللامساواة والحرمان الاقتصادي، في سياق تحلل وذوبان العمل الجماعي. فالمناطق المصابة بالعزلة والتشكيك بقيم الديمقراطية هي تلك التي تعاني الحرمان والعزلة الاقتصادية.
ويرتكز جيروم فوكيه في كتاب “الأرخبيل الفرنسي. ولادة أمة متعددة ومنقسمة”، أيضاً على دراسة إحصائية معمقة تؤكد اتجاهات الانعتاق وتفتت الالتزامات، وابتعاد الأفراد عن المؤسسات في فرنسا.
ويرى أن ما يخيف المجتمع الفرنسي يتلخص بالتحولات العميقة والسريعة التي طرأت على التركيبة السكانية والهوية الفرنسية.