افتتاحية اليوم: شارع..لا يكفي

بعد سنوات على غياب الرئيس سليم الحص، قررت بلدية بيروت أخيراً إطلاق اسمه على أحد شوارع العاصمة. خطوة رمزية تبدو للوهلة الأولى بمثابة تكريم مستحق، لكنها تطرح في العمق سؤالاً مشروعاً: هل يكفي شارع لتكريم رجلٍ نذر حياته لخدمة الوطن بضمير حي، ومارس السلطة نظيف الكف، صادق النية، وعابرًا للمحاصصات؟
لم يكن سليم الحص سياسياً تقليدياً، لقد وُصف بأنه “رجل الدولة الأخير”، وبأنه ضمير الجمهورية في أكثر مراحل لبنان تقلباً ودموية. تولّى رئاسة الحكومة في ظروف صعبة، أبرزها في عزّ الحرب الأهلية ثم في مرحلة ما بعد الطائف، وكان دائماً حريصاً على أن تكون مواقفه انعكاساً لمبدأ، لا لمصلحة، في بلدٍ اعتاد الكثير من ساسته على التلون بحسب الظروف، بقي الحص ثابتاً كمرجعية وطنية وأخلاقية لا تُشترى ولا تُساوَم.
ورغم المناصب التي شغلها، بقي زاهداً في الألقاب، قريباً من الناس، وعصياً على الترويض السياسي. لقد استقال من منصبه مراراً عندما شعر بأن وجوده لا يخدم المصلحة العامة، ولم يسعَ يوماً إلى زعامة أو إلى مكاسب شخصية، بل ظلّ يعتبر أن السياسة أمانة، وأن الموقع العام مسؤولية لا مغنماً.
لا شك أن إطلاق اسمه على شارع هو بالتأكيد خطوة تقديرية، لكنها في نظر كثيرين لا ترتقي إلى حجم الإرث الذي تركه الرئيس “الآدمي”، لا سيما أنه لم يُنصف كما يجب في حياته. فعلى الرغم من نظافة مسيرته ومواقفه الواضحة، بقي مهمشاً من “نادي الكبار” القائم على الزبائنية والطائفية، فدفع ثمن أخلاقيته غالياً في بلدٍ يكافئ الانتهازية ويعاقب المبدئية.
إن الشارع الذي سيحمل اسمه، قد لا يُضيف إلى الحص شيئاً، لكنه يُفترض أن يُضيف إلى الذاكرة الجماعية للبنانيين معنى: أن يُكرَّم رجلٌ قال “لا” عندما كان الصمت أسهل، وحافظ على شرف العمل العام وسط بيئة ملوّثة بالمصالح.
إن ما يحتاجه لبنان اليوم ليس فقط تسمية شارع باسم الحص، بل إعادة الاعتبار إلى النموذج الذي مثّله، نموذج رجل الدولة الذي لا يغريه النفوذ، ولا يساوم على المبادئ، ولا يبيع الناس أوهاماً. إن التكريم الحقيقي لسليم الحص يكون بأن يُعلَّم نهجه، وتُصان سيرته، ويُستَحضَر اسمه كلما احتاج الوطن إلى بوصلة.