تونس تغلق أبوابها.
كتب محمد خليل برعومي في العربي الجديد.
تتواصل الشطحات السياسية للرئيس التونسي قيس سعيّد المتسمة بالشعبوية، والتي لا تحقّق سوى بعض السرديات الرخوة المتناقلة بين جزء من الشارع التونسي في لحظات الراحة من البحث عن الخبز وعديد المواد الاستهلاكية الأساسية، من دون أي جدوى أو منفعة تُذكر على المستوى الواقعي.
بينما يستهدف معارضيه أمنيا وقضائيا، ويضيّق الخناق على العمل السياسي والجمعوي، يعمل سعيّد على فرض خياراته على المحيط الدولي، متترسّا بما يسميها السيادة الوطنية، رافضا كل ما يتعلق بالملاحظات أو التحذيرات عن تعسّف السلطة وقمع الحريات وانتكاسة الديمقراطية منذ 25 يوليو/ تموز 2021.
بشكل مفاجئ، قرّرت السلطات التونسية قبل أيام عدم السماح لوفد من خمسة نواب في البرلمان الأوروبي الدخول إلى أراضيها. وكان من المقرّر أن يتوجّه هذا الوفد إلى تونس العاصمة لفهم الوضع السياسي الحالي بشكل أفضل وتقييمه. وكان من المفترض أيضا أن يجتمع الوفد، برئاسة النائب الألماني مايكل غاهلر، بأفراد من المجتمع المدني ونقابيين وممثلين للمعارضة التونسية.
قرار المنع من دخول تونس فاجأ النواب الأوروبيين الذين عبّروا عن استغرابهم منه، حيث لم تشهد العلاقات التونسية الأوروبية شبيها له منذ الاستقلال
وفي رسالة موجهة إلى هؤلاء النواب، وهم أعضاء في لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، اكتفت السلطات التونسية بإبلاغهم بأنه “لن يسمح لهم بدخول الأراضي الوطنية”، وذلك في قرار فاجأ النواب الأوروبيين الذين عبّروا عن استغرابهم منه، حيث لم تشهد العلاقات التونسية الأوروبية شبيها له منذ الاستقلال.
ومهما كانت الاختلافات مع الضفة الشمالية للمتوسّط عبر كل المحطات، فإن ما يربط مصالح تونس الاقتصادية والأمنية بهذه الضفة جعلها دائما تتوخّى نهجا ديبلوماسيا هادئا في الدفاع عن خياراتها والحفاظ على أقدار من المساحات الخاصة بها في ما يتعلق بقضاياها وشؤونها الداخلية، دون تصادم أو قطيعة.
احذر.. هناك أشغال سياسية في تونس لا يمكنك المرور! وقد اعتبر بعض النواب الغربيين الممنوعين من دخول المجال الترابي التونسي أن الرئيس سعيّد يعتقد في رفضه دخولهم أنه مخوّل لاختيار محاوريه الأوروبيين، ويعتقد أنه لا يحتاج ممثلين من الشعب الأوروبي للحصول على مئات الملايين التي وعدت بها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين خلال اتفاق الحد من الهجرة غير النظامية. كما وصف النائب الأوروبي الفرنسي رافائيل غلوكسمان (كتلة الاشتراكيين والديمقراطيين)، قيس سعيّد بأنه نموذج يجعل أوروبا رهينة عند الأنظمة الاستبدادية التي يمكنها بعد ذلك ابتزازُه.
يتنزّل هذا الغضب في سياق توقيع الاتحاد الأوروبي اتفاقات مع تونس، تهدف إلى الحد من تدفقات المهاجرين في منتصف يوليو/ تموز الماضي، ما جعلها فرصة لمحادثات سياسية بين سعيّد وممثلين عن الغرب، وأهمهم اليمينية رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، التي لم تتوان في الدفاع عن سياسات الرئيس التونسي الاستبدادية تجاه المعارضين والعنصرية تجاه مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء، كما وجد سعيّد ضالته في هذه المحادثات لمحاولة برهنة تحكّمه في الوضع التونسي وانتزاع اعترافات خارجية بشرعية نظامه القمعي، ومن ثم دعمه المالي.
تجاهلت أوروبا مسألة تكريس نظام استبدادي في تونس وتعطيل مسار تقدّمها الحضاري لفرض خياراتها بشكل أحادي، وهي تحصد ثمن ذلك الآن
تعرّض الاتفاق حينها لانتقادات من أحزاب اليسار والخضر في أوروبا، الذين دانوا استبداد الرئيس التونسي والانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون من جنوب الصحراء الكبرى في البلاد. لكن دوائر القرار الغربي أشاحت وجهها عن الديمقراطية التونسية، وتجاهلت شعبويّة سعيّد الخطيرة طمعا في جعله حارس حدودها وخادم مصالحها الكبرىن رغم خطاباته العنيفة تجاهها، بما يطرح إحدى الفرضيتين، أولاهما أن أوروبا، الشريكة الاقتصادية والأمنية الأولى لتونس، تدرك أن تطاول سعيد على أوروبا لا يتجاوز حلقه، وأن كل الظروف والسياقات والإمكانيات تفرض عليه العودة إلى حضنها في كل مرّة، كما يمكن أن تكون هذه المساحات الكلامية متروكة له قصدا لتحشيد الأنصار حوله وضمان بقائه شعبيا.
الفرضية الثانية أن أوروبا تقف عاجزة أمام شعبوي مستبدّ على حدودها، يستدعي السفراء لتحذيرهم، ويتهم بعضهم بالتآمر على أمن الدولة، ويمنع نوّابا أوروبيين من الدخول إلى بلاده، ويرفض حديث مسؤولين غربيين عن سياساته أو انتقادها، وها هو يستدعي الهيئة المستقلة للانتخابات، ليؤكد رفضه حضور مراقبين خارجيين في المحطات الانتخابية، تمهيدا للانتخابات الرئاسية المفترض إجراؤها في نهاية سنة 2024. واعتبر أن في حضور المراقبين من الخارج حنينا للاستعمار، ويمكن لتونس مقابل ذلك أن تراقب الانتخابات في أوروبا وأميركا. مضيفا أنه لا يريد برقيات التهنئة من الدول، وتهمّه البرقيات من الشعب فقط.
أوروبا التي تراخت في الاستثمار في الديمقراطية التونسية ودفع عجلة التنمية والاقتصاد فيها بما لا يكلفها ملاليم مقارنة بحجم أسواقها، وأيضا حجم تحدّياتها الأمنية والاجتماعية المرتبطة بملف الهجرة، ها هي تدفع بعض الثمن ولو رمزيا، فهي من تجاهلت تكريس نظام استبدادي في تونس وتعطيل مسار تقدّمها الحضاري لفرض خياراتها بشكل أحادي، بعد إنهاكه ماليا واقتصاديا. في مقابل ذلك ما زالت تبحث عن أسباب تزايد موجات الهجرة ومغادرة الآلاف هذه الأوطان البائسة.