مبروك لسوريا… رفع العقوبات خطوة أولى، ماذا عن الانتصار الداخلي؟

كتب محمد الصالحين الهوني في صحيفة العرب.
لقد انتصرت سوريا خارجيا أو على الأقل خرجت من دائرة العزل لكن هل يكفي ذلك؟ هل يمكن لهذا الانفراج أن يتحول إلى بداية انتصار داخلي حقيقي؟
مبروك لسوريا. مبروك لشعبها الذي انتظر طويلاً أن يُرفع عنه الحصار، أن يُسمح له بالتنفس، أن يُنظر إليه لا كملف أمني، بل أمة تستحق الحياة. قرار الكونغرس الأميركي برفع العقوبات نهائيًا عن سوريا لحظة تاريخية تحمل في طياتها الكثير من الأمل، والكثير من الأسئلة. لقد انتصرت سوريا خارجيًا، أو على الأقل خرجت من دائرة العزل، لكن هل يكفي ذلك؟ هل يمكن لهذا الانفراج أن يتحول إلى بداية انتصار داخلي حقيقي؟
القرار الأميركي، مهما كانت خلفياته، يعكس تحولًا في المزاج الدولي تجاه سوريا. بعد سنوات من العقوبات التي طالت الاقتصاد والمواطنين والبنية التحتية، يأتي هذا القرار ليعيد فتح الأبواب أمام التجارة، الاستثمار، التعليم، وحتى السفر. إنه اعتراف ضمني بأن سياسة العزل لم تؤدِّ إلى النتائج المرجوة، وأن الشعب السوري لا يمكن أن يُترك رهينة للتجاذبات الدولية إلى الأبد. لكن هذا الاعتراف لا يحمل ضمانات، ولا يقدّم وصفة جاهزة للمرحلة المقبلة. إنه مجرد فرصة، والفرص لا تصنع التغيير إلا إذا التُقطت بوعي وإرادة.
رفع العقوبات ليس نهاية الطريق بل بدايته، إنه اختبار للقدرة على تحويل الانفراج السياسي إلى نهضة وطنية. المطلوب اليوم هو رؤية إستراتيجية، لا تكتفي برد الفعل بل تبادر إلى الفعل
في الشارع السوري، هناك فرحة حقيقية. الناس يتحدثون عن عودة الشركات، عن إمكانية تحسين الوضع المعيشي، عن أمل جديد في إعادة الإعمار. رجال الأعمال يتطلعون إلى استئناف مشاريعهم، والطلاب يحلمون بالسفر والدراسة، والمغتربون يتحدثون عن العودة. لكن هذه الفرحة، رغم مشروعيتها، لا تكفي وحدها. فرفع العقوبات لا يعيد المهجرين، ولا يعالج الجراح، ولا يبني الثقة. المطلوب اليوم هو أن يتحول هذا الانفراج الخارجي إلى مشروع داخلي، إلى رؤية وطنية شاملة تعيد بناء الإنسان قبل الحجر.
الاقتصاد السوري، الذي أنهكته الحرب والعقوبات، أمام فرصة نادرة للانطلاق من جديد. يمكن أن يشهد تدفقًا في الاستثمارات، وعودة في حركة التجارة، وانفتاحًا في النظام المصرفي. لكن ذلك يتطلب بيئة قانونية شفافة، ومؤسسات اقتصادية مرنة، وإرادة سياسية حقيقية لتجاوز منطق المحاصصة والاحتكار. لا يكفي أن تُرفع العقوبات، بل يجب أن تُرفع العوائق الداخلية التي تعرقل النمو، من البيروقراطية إلى الفساد، ومن المركزية إلى غياب الحوكمة الرشيدة.
الانتصار الداخلي لا يُقاس فقط بالمؤشرات الاقتصادية، بل يبدأ من المصالحة الوطنية. سوريا بحاجة إلى حوار شامل، إلى إعادة بناء الثقة بين مكوناتها، إلى عدالة انتقالية تعترف بالآلام وتفتح الطريق نحو التعايش. لا يمكن لأي مشروع تنموي أن ينجح في ظل انقسامات مجتمعية عميقة، ولا يمكن لأي إصلاح أن يترسخ دون مشاركة حقيقية من المواطنين. المطلوب اليوم هو أن يشعر السوري، أيًا كان موقعه، أن له مكانًا في هذا الوطن، وأن صوته مسموع، وأن كرامته مصانة.
في الخارج، الجاليات السورية أمام فرصة تاريخية للمساهمة في إعادة البناء. آلاف العقول التي هاجرت بسبب الحرب، من مهندسين وأطباء ورواد أعمال، يمكن أن تعود أو تساهم عن بُعد في نهضة البلاد. لكن ذلك يتطلب بيئة جاذبة، من حيث الأمان القانوني، والفرص المهنية، والاعتراف بالكفاءات. كما أن المجتمع المدني المحلي، الذي صمد رغم كل الظروف، يمكن أن يكون شريكًا في التنمية، لا مجرد متفرج. تمكين الشباب، النساء، والكوادر العلمية يجب أن يكون في صلب أي رؤية مستقبلية.
رفع العقوبات يجب أن يكون لحظة مراجعة، لا لحظة ارتياح؛ مراجعة للسياسات، للمسارات، للأولويات. يجب أن يُسأل السؤال الصعب: كيف وصلنا إلى هنا؟ وماذا يجب أن نفعل كي لا نعود؟
رفع العقوبات ليس نهاية الطريق، بل بدايته. إنه اختبار للقدرة على تحويل الانفراج السياسي إلى نهضة وطنية. المطلوب اليوم هو رؤية إستراتيجية، لا تكتفي برد الفعل، بل تبادر إلى الفعل. المطلوب هو أن تتحول سوريا من ساحة صراع إلى منصة إنتاج، من دولة منهكة إلى دولة فاعلة، من مجتمع مجروح إلى مجتمع متماسك. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا اجتمعت الإرادة السياسية مع الحراك المجتمعي، وإذا تم تجاوز منطق الانتظار إلى منطق المبادرة.
لا تضيّعوا هذه الفرصة… لا تكتفوا بالاحتفال برفع العقوبات، بل اسعوا إلى رفع الظلم الداخلي، إلى إصلاح المؤسسات، إلى بناء عقد اجتماعي جديد. الشعب السوري يستحق أكثر من مجرد انفراج خارجي، يستحق حياة كريمة، تعليمًا جيدًا، صحة متاحة، وعدالة نزيهة، يستحق أن يعيش في وطن لا يخاف فيه من الغد، ولا يشعر فيه بالغربة.
إن رفع العقوبات يجب أن يكون لحظة مراجعة، لا لحظة ارتياح؛ مراجعة للسياسات، للمسارات، للأولويات. يجب أن يُسأل السؤال الصعب: كيف وصلنا إلى هنا؟ وماذا يجب أن نفعل كي لا نعود؟ يجب أن يُفتح الباب أمام النقد البناء، أمام الإعلام الحر، أمام المشاركة السياسية. فالديمقراطية ليست ترفًا، بل ضمانة للاستقرار، والشفافية ليست عبئًا، بل شرط للثقة.
مبروك لسوريا، ولشعبها الذي صبر وانتظر. مبروك لكل أم حلمت بعودة ابنها، ولكل شاب حلم بمستقبل أفضل، ولكل طفل يستحق أن يكبر في وطن آمن. الانتصار الخارجي تحقق، لكن النصر الحقيقي هو بناء وطن يشعر فيه الجميع بالأمان والكرامة. فلتحولوا رفع العقوبات إلى رفع للثقة، للعدالة، وللحياة. ابدأوا من الداخل، لأن الخارج وحده لا يكفي. هذه لحظة تاريخية، فكتبوها بحكمة، لا بانفعال. اصنعوا منها بداية جديدة، لا مجرد نهاية لعقوبة. امنحوا سوريا ما تستحق.




