الحياة في المدن وصحة الجهاز التنفسي للأطفال.
من دون شك هناك الكثير من المزايا للعيش في المدن الكبرى والعواصم، تتمثل في توفر وسائل الراحة، وتعدد الاختيارات المختلفة في كل المجالات من نزهات وتسوق، فضلاً عن وجود مستشفيات كُبرى مجهزة توفر رعاية صحية أفضل من المدن الصغيرة والقرى. ولكن الحياة في المدن بالطبع تعرّض سكانها لكثير من عوامل الخطورة الصحية، وأهمها جودة الهواء الذي يكون في الأغلب معبأ بعوادم السيارات وأبخرة المصانع المختلفة.
والأطفال من أكثر الفئات التي تتأثر سلباً بوجودهم في أماكن مليئة بهواء ملوث مما يجعل الجهاز التنفسي أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض المختلفة «respiratory infections» وأهمها الربو الشعبي الذي يُعد من أشهر الأمراض المزمنة لدى الأطفال.
المدن وإصابات الجهاز التنفسي
في أحدث الأبحاث على تأثير المكان الجغرافي على صحة الأطفال حاولت دراستان تفسير مدى خطورة سكن المدن الكبرى على زيادة الإصابات بالتهابات الجهاز التنفسي والتعرض باستمرار لأعراضه، مثل السعال ونزلات البرد خاصة لدى الرضع والأطفال الأصغر عمراً. وتبعاً للدراسة الأولى وهي عبارة عن بحث تم تقديمه في اجتماع الجمعية الأوروبية للجهاز التنفسي «European Respiratory Society» في مدينة ميلانو الإيطالية، فإن مجرد الوجود في بنايات كبيرة غير معرّضة للهواء الطلق يساهم في ضعف الجهاز التنفسي.
وأشارت الدراسة الثانية التي تم تقديمها أيضاً ونُشرت في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) من العام الحالي في «مجلة صحة الرئة للأطفال» (Pediatric Pulmonology) إلى النتائج نفسها تقريباً، حيث أوضحت أن الحياة في منازل رطبة أو الإقامة بالقرب من حركة المرور المزدحمة يزيد من خطر إصابة الأطفال الصغار بالتهابات الصدر. ولكنها أكدت أن الرضاعة الطبيعية تقلل من المخاطر بشكل كبير.
في الدراسة الأولى قام الباحثون بمتابعة أكثر من 660 طفلاً وأمهاتهم. وبدأت هذه المتابعة أثناء الحمل واستمرت حتى بلغ الأطفال سن 3 سنوات وبحلول عمر الثالثة وجد الباحثون أن متوسط إصابة الأطفال الذين يعيشون في المناطق الحضرية بلغ 17 حالة مختلفة من عدوى الجهاز التنفسي تدرجت في الشدة من مجرد نزلات برد بسيطة إلى الإصابة بحساسية الصدر المزمنة والالتهاب الرئوي والشعبي. وكان أكثر الأعراض حدوثاً هو السعال ثم عرض الصفير wheezing في مرضى الربو ثم الرشح من الأنف، وفي المقابل بلغت إصابات الأطفال الذين يعيشون في المناطق الريفية 15 حالة فقط.
أجرى الباحثون أيضاً اختبارات دم كاملة للنساء الحوامل تضمنت قياساً للدلالات المناعية عن طريق عمل عد كامل لكريات الدم CBC، والكثير من التحاليل لرصد الأجسام المضادة للأمراض المختلفة، وقاموا أيضاً بعمل تحليلات مفصلة لأطفالهن حديثي الولادة لقياس القدرة المناعية لهؤلاء الرضع عند عمر 4 أسابيع، وتبين وجود اختلافات واضحة في المناعة بين الأطفال الذين تمت ولادتهم في المناطق الحضرية والمناطق الريفية، وكانت هناك أيضاً اختلافات في عينات الدم المأخوذة من الأمهات والأطفال فيما يتعلق بالبيئات المعيشية، وعدد مرات الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي.
أوضحت الدراسة أن الحياة في المناطق الحضرية في حد ذاتها أصبحت تمثل عامل خطورة للإصابة بالعدوى في بداية حياة الأطفال، وذلك نتيجة مباشرة للتعرض لتلوث الهواء باستمرار، والوجود في أماكن سيئة التهوية وعدم التعرض الكافي لضوء الشمس المباشر.
خطورة مستقبلية
وهذا التأثير يمتد ليشمل البالغين أيضاً، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في التغيرات التي طرأت على الجهاز المناعي للأمهات الحوامل حسب التحاليل التي تم إجراؤها، وكذلك التغيرات نفسها للرضع حديثي الولادة مما يمثل خطورة صحية مستقبلية عليهم، وذكروا أن البيئة المعيشية للطفل يمكن أن تؤثر على تطور جهاز المناعة لديه حتى قبل أن يتعرض للسعال ونزلات البرد.
وقام الباحثون في الدراسة الثانية بمتابعة بيانات أكثر من 1300 أم وطفل في أسكوتلندا وإنجلترا، وعندما كان عمر الأطفال عاما وعامين قامت الأمهات بالإجابة عن استبانات تفصيلية حول التهابات الجهاز التنفسي والأعراض؛ مثل السعال، وعرض الصفير، وأيضاً شملت الاستبانة الأدوية التي تناولها الأطفال أثناء إصابتهم بالأمراض المختلفة للجهاز التنفسي، مثل موسعات الشعب الهوائية والأدوية المثبطة للسعال والطاردة للبلغم، وبشكل خاص عقار الكورتيزون الذي يلعب دوراً كبيراً في علاج الربو وحساسية الصدر.
كشف تحليل الاستبانات عن الدور الكبير الذي تلعبه الرضاعة الطبيعية في حماية الأطفال من خطورة الإصابة بعدوى الجهاز التنفسي، حيث تبين أن الرضاعة لمدة تزيد على ستة أشهر ساعدت في الحماية عن طريق تقوية الجهاز المناعي، وأكد الباحثون أن الحياة في منازل جيدة التهوية يُعد بمثابة الحماية للأطفال؛ لأن الذين يعيشون في منازل رطبة عرضة للحاجة إلى جهاز الاستنشاق «inhaler» لتخفيف حدة الأزمة الربوية ضعف أقرانهم الآخرين، وفي الأغلب يحتاجون إلى العلاج بالكورتيزون للسيطرة على الأعراض. وأيضاً وجدت الدراسة أن مجرد السكن في منطقة ذات كثافة مرورية كبيرة يزيد من خطر الإصابة بالتهابات الصدر، كما تبين أن التعرض لدخان التبغ يساهم في زيادة حدة أعراض السعال والصفير.
ونصح الباحثون الأمهات بضرورة الحرص على الرضاعة الطبيعية لأطول فترة ممكنة، وأيضاً ضرورة الحياة في منازل لا يوجد بها رطوبة؛ لأنها تساهم في نمو الفطريات، وبالتالي تؤثر بشكل كبير على الأطفال مرضى الربو الشعبي. ويجب أن يحرص الآباء على تعريض الأطفال باستمرار للهواء النقي والخروج إلى المتنزهات والأماكن الريفية كلما أمكن ذلك لتقوية الجهاز المناعي، ويجب أيضاً عدم ممارسة التدخين داخل المنازل خاصة في وجود الأطفال الصغار.