رأي

هل تستعيد مصر دورها الإقليمي

كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.

التصدي المصري سواء أكان نابعا من قراءة مبكرة لعدم جدواه أم خرج من رحم شعور داهم بالخطر كشف عن ميل نحو التخلي عن سياسة الحذر التي لازمت القاهرة طويلا.

يمكن أن يكون الموقف المصري من ملف توطين جزء من فلسطيني غزة وتشابكاته، والرفض القاطع للقبول به، مدخلا من خلاله تستعيد القاهرة دورها الإقليمي ، حيث شغلتها كثيرا الهموم الداخلية والمشاكل الأمنية ثم الأزمات الاقتصادية، وتعاملت بهدوء مبالغ فيه مع قضايا المنطقة، ولم تكن تفاعلاتها واضحة، واتسمت مواجهتها للتحديات بالحذر أحيانا، ما عدا تطورات لها علاقة مباشرة بالأمن القومي المصري، كان الرد فيها حاسما.

استفادت إيران وتركيا من تراجع الدور المصري، أو بمعنى أدق عدم استعداد القاهرة للاشتباك مع بعض القضايا الحيوية، وتغولت طهران وتمددت أنقرة في بعض الدول العربية، وما أحدث خللا في الأمن القومي العربي أن التغول والتمدد ترافقا مع حالة أشبه بالانعزالية لدى مصر، والتي يمكنها فرملة إيران ومناطحة تركيا، إذ انكفأت على شواغلها المحلية من أجل ترتيب أوضاعها الداخلية بعد ثورتين اندلعتا بين عامي 2011 و2013، وكانت لهما تأثيرات بالغة على الحسابات الإقليمية، وعدم الرغبة في التداخل مع تطورات اصطحبت صراعات ونزاعات وحروبا، وتسببت في تحول كبير لشكل التوازنات التقليدية.

لم تكن الإسهامات بارزة في كل الأزمات التي تحيط بالدولة المصرية، حيث واجهت حزمة منها في الاتجاهات الإستراتيجية الأربعة، من جهة الغرب اندلعت الأزمة الليبية ولا تزال، وانحصر دور القاهرة في منع الاقتراب من الحدود الجغرافية مع ليبيا، ومساندة قوى تتوافق مصالحها معها، ومحاربة جماعات إرهابية ومتطرفة، ومن جهة الجنوب نشب صراع أشعل السودان، وكان دور القاهرة ظاهرا في الدعم المعنوي، والمادي أحيانا، للمؤسسة العسكرية في مواجهة قوات الدعم السريع، ومن الشمال ارتفعت سخونة الخلافات حول شكل الاستحواذ على غاز شرق البحر المتوسط.

والحال ذاته، وبدرجات مختلفة، ينطبق على أزمات سد النهضة الإثيوبي، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتهديدات جماعة الحوثي للملاحة في جنوب البحر الأحمر، وفي جميعها، تجنبت مصر التلويح باستخدام الخشونة عمليا، ولجأت إلى المرونة والتفاوض والتحركات الدبلوماسية، بما انعكس على دورها الإقليمي.

يشعر المراقب للموقف المصري من الأزمات المتناثرة أن هناك رغبة في النأي عن الالتحام أو الاشتباك معها، كأن القيام بهذه المهمة سوف يجر تداعيات قاسية، رصدتها أو عرفتها مسبقا القيادة المصرية، لأن الحرص على الابتعاد كان لافتا، وتركت غالبية التطورات تمر بسهولة مهما كانت الخسائر المادية الناجمة عنها، وظهرت تجلياته في أزمة الملاحة في خليج عدن والبحر الأحمر، والتكلفة المرتفعة التي تحملتها قناة السويس وفضلتها مصر على المشاركة في مواجهة عسكرية ضد الحوثيين ضمن تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا.

تكرر هذا المشهد، بمستويات متباينة، في كل التحديات التي واجهتها القاهرة في العقد الأخير، ما فُسّر أنه عجز وخمول وارتباك وتقاعس أكثر منه تريثا وحذرا وتأنيا وخوفا من مصيدة مجهولة، وكأن مصر تخشى من دخول ورطة لا تعرف كيف تخرج منها، أو أنها تنتظر اكتمال بناء قوة ما، وأن كل هذه التهديدات المصيرية يمكن تحمل تبعاتها عن بعد، والانخراط فيها له تكاليف باهظة، ما خلق صورة ذهنية أوحت أن مصر فرطت في موقعها الجيوستراتيجي، وقررت الانزواء والانعزال.

كشف مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن توطين جزء من فلسطيني غزة في مصر عن قدرة القاهرة السياسية التي تقول “لا” بعد أن غابت فترة طويلة عن المنطقة، ووصف البعض دورها بأنه تلاشى، وتزحزح كثيرا لصالح صعود قوى أخرى، كبيرة أو صغيرة، عربية وغير عربية، ورفع ملف التوطين الغطاء عن موقف صارم من مقترح لترامب أثار اعتراضا وكانت القاهرة من أوائل الأصوات الرافضة.

تعرضت مصر بسبب هذا الملف لاتهامات وانتقادات قبل أن يفجره الرئيس الأميركي في وجه الفلسطينيين والمصريين والأردنيين، لكن رفضه أعاد تصويب البوصلة الإقليمية، وكشف عن وجه ناصع للقاهرة غاب طويلا، وترك مساحة لدول مثل إيران وتركيا وإسرائيل لعقد تحالفات أخلّت بمقتضيات الأمن العربي، وتعد مصر أحد أعمدته الرئيسية، فبعد خروج العراق وسوريا من معادلته بات التعويل على القاهرة، وتراجعها سمح لقوى وجهات أخرى بالسعي لملء الفراغ على الساحة العربية.

لدى مصر فرصة لاستعادة دورها الإقليمي، فهي دولة معتدلة سياسيا في توجهاتها، ومتوازنة في تصوراتها العسكرية، ومستقرة أمنيا، ومع أزمتها الاقتصادية المحتدمة هناك فرصة واعدة لتجاوزها، ونجحت في تشييد شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية المنضبطة، ولا تزال حريصة على قوميتها، وموقفها من التوطين ينطوي على بعد عروبي، يضاف إلى البعد المصري، فتصفية القضية الفلسطينية على مشجب التهجير له تأثيرات عربية لا تقل خطورة عن نظيرتها المصرية.

يمكن أن تستغل مصر انعقاد القمة العربية الطارئة في السابع والعشرين من فبراير الجاري، وتستفيد من جدول الأعمال الذي ينصبّ على دعم القضية الفلسطينية، وتوفير رافعة سياسية لروافدها المختلفة، وأهمها تقويض مخطط التوطين الذي بدأ ترامب يتحلل منه، لكن حوّله اليمين الإسرائيلي إلى منهج يريد تطبيقه في الفترة المقبلة، والتصدي المصري، سواء أكان نابعا من قراءة مبكرة لعدم جدواه أم خرج من رحم شعور داهم بالخطر، فقد كشف عن ميل نحو التخلي عن سياسة الحذر التي لازمت القاهرة طويلا، وكادت تخرجها من مربع القوى الفاعلة في المنطقة.

يعد البناء على سرديات التوطين وتداعياتها خطوة أولى لاختبار الدور المصري، وما إذا كان النشاط السياسي الذي دب مؤخرا دائما أم مؤقتا، وحقيقيا أم مفتعلا، فمع الانتقادات التي تعرضت لها القاهرة بشأن موقفها من حرب غزة، إلا أن تقارير إسرائيلية تحدثت عن تحركات عسكرية مصرية في سيناء، وهي رسالة غير مألوفة كثيرا في هذه المنطقة، وتحمل إنذارا بتجاوز مرحلة الكمون، وإشارة على إمكانية التخلي عن دور المراقب وعدم حصر الحركة في التهديدات الأمنية المباشرة.

إذا اكتمل هذا التوجه، وخرجت منه تصورات تتواءم مع طبيعته الهجومية، ففي هذه الحالة علينا أن ننتظر وجها آخر للسياسة المصرية. وجه أكثر صرامة وأشد حسما، كان قد اختفى في السنوات الماضية، ومهما كانت مبررات ودوافع الاختفاء، فهي لم تعد تتوافق مع مستجدات بدأت منطقة الشرق الأوسط تستعد فيها لدورة سياسية جديدة، سوف تشهد فيها تغييرات، وتنزوي دول أو تتوارى، وتطفو أو تعلو أخرى.

في جميع الحالات، لن تتحمل مصر خفوتا لدورها أكثر من ذلك، إلا إذا أرادت أن تكون متفرجة دوما. وهذا لا يتناسب مع المعطيات الجغرافية والتاريخية الدقيقة، والتي أثبتت أن مصر تختفي سياسيا عندما يغيب دورها الإقليمي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى