مصداقية قيس سعيّد.. مفتاح تفكيك أزمة قابس

كتب مختار الدبابي في صحيفة العرب.
الأزمة في قابس نتاج تراكم تاريخي، وحلها لا يكمن في التخوين ولا في شراء الوقت. كما أنه لا يوجد حل في دقيقة، والحوار هو السبيل لجسر الهوة.
إذا استمر التعاطي الحكومي الصامت مع الاحتجاجات في محافظة قابس التونسية على خلفية قضية التلوث، فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة. الحكومة لا تمتلك محاورين جيدين، الوزراء تكنوقراط يتقنون وضع الخطط، وليسوا سياسيين ليحاوروا أو يناوروا، والمسؤولون المحليون منخرطون آليا مع الناس، يطالبون بنفس مطالبهم، لا أحد ينتظر منهم أن يظهروا ليقولوا للناس اصمتوا.
كما أن نواب البرلمان من المحافظة لا يمتلكون الإشعاع الكافي ليمثلوا ثقلا يمكن أن يحاور ويقنع الناس بالانتظار قليلا حتى تنفذ الحكومة خطتها لتغيير الآليات المستعملة، التي تحدث التسربات الغازية المتسببة في حالات الإغماء.
الجهة الوحيدة القادرة على النزول إلى الناس ومخاطبتهم وإقناعهم هي الرئيس قيس سعيد. ورغم حالة الاحتقان التي بلغتها الأوضاع بعد مشاركة الآلاف من أبناء المدينة في المسيرة التي تريد لفت نظر الحكومة بمطالبهم وعلى رأسها تفكيك المعمل الذي يتولى معالجة الفسفات الذي يتم جلبه من محافظة قفصة الواقعة على الحدود مع الجزائر.
من البداية، فإن أهل قابس يطالبون بحضور الرئيس قيس سعيد إلى المدينة والحديث إليهم، وهو مطلب يسهل على الرئيس التونسي مهمة الإقناع وتفسير مقاربة الحكومة للأزمة، كما أن هذا المطلب يظهر منسوب الثقة العالي الذي يحظى به لدى الناس.
المطلوب أن يصارح الرئيس سعيد الناس بأن تفكيك المعمل ونقله إلى منطقة أخرى فكرة غير عملية وليست ممكنة، وأن الحكومة جادة في تسريع عملية استصلاح وتغيير الآليات التي باتت تحدث تسربات
لذلك ينتظر في أي لحظة أن ينتقل قيس سعيد إلى المدينة الواقعة في الجنوب الشرقي للبلاد من أجل الاستماع إلى الناس واللقاء بهم بشكل مباشر ومحاورتهم في الشارع، كما فعل في الاحتجاجات التي وقعت قبل أشهر في مدينة المزونة (محافظة سيدي بوزيد)، حين مثل حضوره فرصة للحوار والمصارحة والالتقاء بالمواطنين.
لماذا يكون لقاء قيس سعيد مهما بالنسبة إلى المواطنين في قابس وقبلها في المزونة وأماكن أخرى نجح فيها الرئيس سعيد في طمأنة النفوس وتهدئة الخواطر وتقديم تعهدات بتحسين الوضع. آلية الحوار المباشر مهمة مع مناطق تشعر بأنها متروكة لقدرها خلال عقود من حكم الدولة الوطنية، وأن الدولة/ المركز لا تظهر إلا لأخذ الجباية أو الدعاية للانتخابات في مناطق الهامش. وتاريخيا كانت المعارضة الراديكالية تنطلق من مدن الوسط والجنوب والشمال الغربي بسبب موقف من الدولة التي تدير لهم الظهر وتهتم بالسواحل.
يجد الكثير من الناس في صعود قيس سعيد إلى الحكم فرصة قد لا تتكرر لكسر هذه المعادلة، وأن تستعيد الدولة من خلالها أداء متوازنا يساوي بين المناطق، والأكثر من ذلك يعوض مدن الهامش عما لحقها من إجحاف وإهمال بسبب ثقافة قديمة تقوم على الصراع بين سكان مراكز المدن (البلْدية) وسكان القرى والأرياف والمناطق الصحراوية (الآفاقيين)، وهو صراع يرفع فيه المركز خطاب القوة المادية والثقافة المتعالية في وجه من يصفهم بالبدو. وترك هذا جروحا غائرة أسست لانتفاضات عشائرية منذ قرون، وخاصة في فترة الحكم العثماني والاستعمار الفرنسي، حيث تصدرت مناطق الهامشية مهمة المقاومة المسلحة فيما كانت مدن السواحل تتهم بالاستفادة من الوجود الفرنسي وخلافته لاحقا على الحكم.
ومنذ ظهوره في الحملة الانتخابية التي قادت إلى فوزه بالرئاسة في انتخابات 2019 كان الناس يشعرون في مختلف المناطق بأن قيس سعيد هو الشخصية التي يبحثون عنها لتلافي أخطاء الماضي. وبقطع النظر عن تقييم أدائه السياسي في العلاقة بالديمقراطية والأجسام الوسيطة، إلا أنه نجح في أن يكون بديلا مختلفا لمنظومات الحكم السابقة التي تتحرك بثقافة المركز سواء أكانت من داخله أو من خارجه واختارت التبعية له وسعت لاسترضائه، كما حصلت في حكومات ما بعد ثورة 2011.
ليس مطلوبا من الحوار أن يذهب عبره قيس سعيد إلى قابس ويقول إن الدولة قررت أن تغلق المجمع الكيميائي، هكذا ببساطة وخسارة الدولة لأهم مصدر من مصادر قوتها، وهو معالجة الفسفات، واستعادة موقع تونس في السوق العالمية لهذه المادة الحيوية بعد أن خسرته بسبب سلسلة الإضرابات الفوضوية بعد ثورة 2011.
من المهم أن تكف بعض البرامج والوجوه، التي تقدمها نفسها على أنها تدافع عن خيارات الرئيس سعيد، عن التعامل مع التحرك على أنه جزء من مؤامرة، فذلك يحقق نتائج عكسية
وأعلنت الحكومة التونسية في مارس الماضي عن خطة لزيادة إنتاج الفوسفات بنحو خمسة أضعاف، ليصل إلى 14 مليون طن متري بحلول عام 2030، وذلك في إطار خطة تهدف إلى إنعاش هذا القطاع الحيوي، للمساعدة في تحسين المالية العامة المتعثرة.
المطلوب أن يصارح الرئيس سعيد الناس بأن تفكيك المعمل ونقله إلى منطقة أخرى فكرة غير عملية وليست ممكنة، وأن الحكومة جادة في تسريع عملية استصلاح وتغيير الآليات التي باتت تحدث تسربات، وأن قابس كما أي منطقة أخرى في البلاد هي جزء من الدولة، وليس هناك ما يدفع إلى خطاب المظلومية التي تغذيه المزايدات من الداخل والخارج، مع تعهد بإحداث نقلة في القطاع الصحي بالمحافظة، وتعويض المتضررين من مخلفات المجمع الكمياوي.
ومن الطبيعي أن تعهدات يطلقها الرئيس سعيد للناس ستكون ملزمة للحكومة وتدفعها إلى تسريع التنفيذ، والأهم من هذا أنها تنجح في قطع الطريق أمام التوظيف السياسي لما يجري، مع أن الفعاليات المدنية المشاركة في مسيرة الأربعاء قد أكدت أكثر من مرة أنها لا تقبل بأي توظيف ودعت الأحزاب إلى النأي بالنفس عن هذا التحرك خاصة أن كثيرا من الأحزاب والشخصيات شاركت في حكومات سابقة، قبل الثورة وبعدها، ولم تفعل شيئا لإصلاح الوضع في قابس، وكانت بدورها تطلق الوعود ثم تختفي وتحضر إلى المحافظة وقت الانتخابات ثم تختفي مجددا.
لكن من المهم أن تكف بعض البرامج والوجوه، التي تقدمها نفسها على أنها تدافع عن خيارات الرئيس سعيد، عن التعامل مع التحرك على أنه جزء من مؤامرة، فذلك يحقق نتائج عكسية ويدفع السكان إلى الاتجاه الآخر وتصديق ما يسمعونه من مزايدات عن التهميش.
الأزمة في قابس نتاج تراكم تاريخي، وحلها لا يكمن في التخوين ولا في شراء الوقت. كما أنه لا يوجد حل في دقيقة، والسبيل لجسر الهوة هو الحوار على قاعدة الوضوح ومصارحة الناس بحدود القدرات الحكومية، ومصداقية قيس سعيّد هي مفتاح لتفكيك الأزمة.