رأي

دمشق على حافّة التوازن

كتب باسل الحاج جاسم في صحيفة العربي الجديد.

لم تكن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع موسكو في 15 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) حدثاً عابراً، فالمشهد الذي جمعه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، بعد أشهر من سقوط النظام السابق، حمل أكثر من دلالة، أبرزها عودة دمشق إلى رقعة الشطرنج الدولية، بين موسكو التي تمثّل ذاكرة الماضي، والغرب الذي يملك مفاتيح الاقتصاد. واللقاء الأول من نوعه منذ إطاحة بشار الأسد، ويأتي في إطار إعادة بناء العلاقات بين دمشق وموسكو، بعد سنواتٍ كانت فيها روسيا الداعم العسكري والسياسي الأبرز للنظام الساقط. لكن ما بدا في السطح خطوة دبلوماسية عادية، تحمل في طيّاتها دلالات أعمق تتعلّق بمستقبل السياسة الخارجية السورية، وبمدى قدرة القيادة الجديدة على الموازنة الدقيقة بين موسكو من جهة، وواشنطن وبروكسل من جهة أخرى، من دون أن تتجاهل العامل الإسرائيلي الذي لا يمكن فصله عن معادلات الأمن والاستقرار في الإقليم.

واضح أن دمشق الجديدة تحاول إعادة رسم خريطة علاقاتها الخارجية بما يتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب، وهي مرحلة تتطلّب انفتاحاً محسوباً على الغرب، ووعياً بمصالح روسيا التي ما زالت تمتلك أوراقاً قويةً في الداخل السوري. وكان اللقاء الذي جمع الرئيس بوتين بوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (يوليو/ تموز الماضي) وُصف بأنه بداية عهد جديد من التفاهم السياسي والعسكري بين الطرفَين، وأكّد فيه بوتين التزام بلاده المساهمة في إعادة إعمار سورية ورفض أيّ تدخّل إسرائيلي في شؤونها. لكن خلف هذا الخطاب، تبدو موسكو حريصةً على تأمين موقعها في سورية الجديدة، لا حليفاً مطلقاً كما كانت في عهد الأسد، بل بوصفها شريكاً يسعى لضمان مصالحه الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسّط والشرق الأوسط. في المقابل، تراهن القيادة السورية الجديدة على الانفتاح نحو أوروبا والولايات المتحدة لإعادة إدماج سورية في المجتمع الدولي، مستفيدةً من بوادر تخفيف العقوبات الغربية ومن خطاب سياسي أكثر براغماتية يركز في إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والاستقرار الإقليمي. غير أن التقارب مع موسكو في هذا التوقيت يثير تساؤلات في واشنطن والعواصم الأوروبية حول مدى استعداد دمشق للابتعاد من النفوذ الروسي، أم أن سورية الجديدة ما زالت تدور في الفلك ذاته، وإن بوجه مختلف؟

من الزاوية الإسرائيلية، لا يمرّ ما يجري من دون مراقبة دقيقة. فزيارة الشرع موسكو تزامنت مع اتصال بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ناقشا خلاله تعزيز الاستقرار في سورية. وهذا يعني أن إسرائيل باتت فاعلاً معلناً في معادلة النفوذ، إذ تسعى إلى منع أيّ تقارب سوري ـ روسي قد يقوّض تفاهماتها الأمنية مع موسكو، وفي الوقت نفسه تراقب بقلق أيَّ انفتاح سوري ـ غربي قد يعيد إلى دمشق هامش القرار المستقلّ. وفي المشهد الإقليمي، يظلّ الدوران التركي والإيراني عاملين لا يمكن تجاهلهما، إذ يتقاطعان مع الحسابات الروسية والغربية في الشمال والجنوب السوريين على حدّ سواء.

قد تكون زيارة الشرع إلى روسيا بدايةً لسياسة الموازنة الدقيقة، أو قد تكشف تناقضات مبكّرة في مسار الحكم الجديد

السؤال اليوم: هل تستطيع دمشق أن تمسك العصا من منتصفها؟ فالتوازن بين موسكو والغرب ليس مجرّد خيار سياسي، بل تحدّ وجودي لدولة تحاول أن تعيد تعريف نفسها بعد عقد من الصراع والدمار. تملك روسيا النفوذ العسكري في الأرض، بينما يملك الغرب مفاتيح الاقتصاد والمساعدات وإعادة الإعمار، أمّا إسرائيل فتمتلك القدرة على التأثير عبر الضغوط الإقليمية والأمنية. وفي هذه المعادلة المعقّدة، تبدو القيادة السورية أمام اختبار صعب، كيف تحافظ على سيادتها واستقلال قرارها من دون أن تخسر أحد الأطراف؟

قد تكون زيارة الشرع إلى روسيا بدايةً لسياسة الموازنة الدقيقة، أو قد تكشف تناقضات مبكّرة في مسار الحكم الجديد. فإمّا أن تنجح دمشق في تحويل تعدّد العلاقات إلى شبكة مصالح متوازنة تحفظ استقلالها، أو تسقط في فخّ المحاور المتصارعة من جديد. وفي كلتا الحالتين، تبقى سورية الجديدة أمام مفترق طرق تاريخي، إمّا أن تكون جسراً بين الشرق والغرب، أو ساحة أخرى لتجاذب القوى الكبرى.

هل تكون دمشق الجديدة ساحة للتوازن أم مرآة لصراعات الآخرين؟… وبين الجسر والساحة، تُختبر اليوم حقيقة التوازن السوري: هل هو خيار استراتيجي أم مجرّد ضرورة مؤقتة؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى