رسائل بوتين رداً على ماكرون
كتب د. محمد السعيد إدريس في صحيفة الخليج.
الرد «العاصف» الذي ردّ به الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في ختام اجتماع أوروبي رفيع المستوى استضافه قصر الإليزيه، مؤخراً، لتعزيز الدعم الغربي متعدد الأشكال لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ودعوته في ختام هذا المؤتمر إلى اتخاذ إجراءين أوروبيين غير مسبوقين؛ أولهما، إرسال قوات أوروبية لتقاتل روسيا في أوكرانيا، وثانيهما تشكيل «تحالف» من حلفاء أوكرانيا يستهدف تسليم صواريخ متوسطة وطويلة المدى للجيش الأوكراني لتوجيه ضربات إلى روسيا (في العمق)، وما أثارته هذه التصريحات من ردود فعل، رافضة وغاضبة، على المستويين، الفرنسي الداخلي والأوروبي، كشف عن إدراك روسي متعدد المستويات لما يمكن تسميته ب«الحالة الراهنة للصراع» في أوكرانيا، ومن ثم جاءت الاستجابة الروسية لهذه التصريحات لتضع النقاط على الحروف، وإرسال مجموعة رسائل روسية قوية عن الفهم الروسي ل«واقع المواجهة»، واستعداداتها الكاملة لوضع نهاية للحرب في أوكرانيا تستجيب للشروط الروسية.
مستوى الإدراك الأول الذي فهمته روسيا من تصريحات ماكرون، أن الغرب الأوروبي والأمريكي أضحى على قناعة مفادها أن «أوكرانيا خسرت الحرب»، أو أن «أوكرانيا تخسر الحرب»، وأنه لا سبيل لوقف تردي الأوضاع العسكرية الأوكرانية والحيلولة دون تمكين الرئيس الروسي من الانتصار، على حد قول الرئيس ماكرون، إلا التدخل العسكري الأوروبي المباشر في الحرب، وهو أمر تعرف القيادة الروسية أنه «خط أحمر» بالنسبة إلى الغرب، أي أن الغرب وضع «خطاً أحمر» يمنع التورط العسكري المباشر في الحرب، ومعنى تلويح إيمانويل ماكرون به أن «الأوضاع في أوكرانيا تقترب من نهايتها».
مستوى الإدراك الثاني، الذي فهمته روسيا استقته من ردود الفعل الغاضبة والرافضة لدعوة ماكرون للتدخل العسكري الأوروبي المباشر في الحرب، ومفاده أن الغرب اكتفى بما قدمه لأوكرانيا، وأنه لم يعد مستعداً لدفع المزيد من الأثمان، ومن ثم فإن «الحرب في أوكرانيا تقترب من نهايتها». فالبرلمان الفرنسي رفض، بشدة، دعوة ماكرون، واضطر وزير الخارجية إلى «تلطيف» تلك الدعوة بالقول إن ماكرون «لم يقصد إرسال فرق إلى المسرح الأوكراني بل كان يشير إلى إرسال مجموعات عسكرية من أجل القيام بمهام محددة». أما المستشار الألماني أولاف شولتز، فقد أكد أنه «لن يتم إرسال (أي جندي) إلى أوكرانيا من الدول الأوروبية أو الناتو». وامتد الرفض إلى حلف شمال الأطسي (الناتو)، وإلى الولايات المتحدة، وإيطاليا، وإسبانيا، وبولندا وبريطانيا، وتشيكيا، والمجر، وسلوفاكيا.
وبقدر ما كشف هذا الرفض من انقسام غربي أدركت روسيا عمقه، بقدر ما كشف أيضاً عن وعي وخوف أوروبي من مخاطر التورط في حرب مع روسيا.
أما مستوى الإدراك الثالث، فيتعلق بفداحة التطورات الداخلية السلبية التي تجري في أوكرانيا، وبخاصة دعوة «التغيير» التي تتسع يوماً بعد يوم للطاقم الحاكم في كييف. وأن ماكرون قصد من دعوته تلك لفت الأنظار إلى أن «من يحكمون في كييف لم يعودوا قادرين على البقاء في الحكم، وأن إسقاطهم أضحى ضرورة». أي أن ماكرون استهدف الحصول على قبول أوروبي لدعوة «تغيير النظام في كييف»، في ضوء السجال الداخلي الذي أخذ يدور في أوكرانيا حول قضية «شرعية السلطة» في غياب الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
ومن المعلوم أنه، بموجب الدستور الأوكراني، تنتهي ولاية الرئيس فولوديمير زيلينسكي ليلة 21 مايو/ أيار المقبل، فيما لم تتضح بعد أية آليات لانتقال السلطة إلى البرلمان أو احتفاظ زيلينسكي بصلاحياته في ظل سريان حالة الطوارئ.
هذا الإدراك جاء متناغماً مع سجال روسي- أوكراني تفجر في الأسابيع الماضية، جراء اتهامات أوكرانية لموسكو، على لسان الرئيس زيلينسكي، بالسعي إلى زعزعة الوضع الداخلي، والتعويل على انهيار الجبهة الداخلية، الأمر الذي ردّ عليه بقوة ديمتري بيسكوف الناطق بلسان الكرملين، بقوله إن الوضع في أوكرانيا «ينضج من تلقاء نفسه»، مشيراً إلى أن «هناك عدداً من وجهات النظر في أوكرانيا بشأن الانتخابات وشرعية قيادة البلاد».
جاء خطاب الرئيس بوتين أمام البرلمان الروسي وقبيل أيام من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الروسية محملاً بهذه الإدراكات، ومن ثم صاغ الرد في رسائل دقيقة تكشف حقيقة أن روسيا تعي أنها «كسبت الحرب»، وأن ما عليها الآن هو «تهيئة الظروف وإنضاجها لتسوية موسعة لما بعد الحرب في أوكرانيا مع أوروبا».
فقد ردّ بوتين مباشرة على دعوة الرئيس الفرنسي بأن تبعات مثل هذا التدخل الأوروبي «ستكون مأساوية»، وأن على الأوروبيين «أن يدركوا في نهاية المطاف، أن لدينا أيضاً أسلحة قادرة على إصابة أهداف داخل أراضيهم».
كما لفت إلى أن روسيا تعتبر أن ما يقوم به الغرب «يهدد الأمن الأوروبي»، وشدد على أنه «يجب أن يكون هناك هيكل جديد للأمن المتساوي، وغير القابل للتجزئة»، وأكد أنه «من دون روسيا قوية وآمنة لن يكون هناك أمن مستدام في أوروبا».
ثلاثة رسائل تحمل مؤشرات مهمة لمستقبل الحرب الأوكرانية التي بدأت عامها الثالث منذ ما يقرب من أسبوعين.