
حسين زلغوط, خاص – “رأي سياس”:

في تطوّر سياسي لافت، أطلق رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، تصريحًا أثار موجة من التأويلات داخليًا وخارجيًا، حيث أبدى استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل برعاية أميركية، في خطوة تعكس تحوُّلًا لافتًا في الخطاب الرسمي في ظل التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط.
هذه الإشارة، وإن لم تكن إعلانًا مباشرًا عن انطلاق مسار تفاوضي جديد، إلا أنها تحمل في طياتها دلالات سياسية بالغة الأهمية، تأتي في توقيت إقليمي شديد الحساسية، وسط قرار وقف الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس” في غزة، والتوتر اليومي بين لبنان وإسرائيل، فضلًا عن مساعٍ دولية – أميركية تحديدًا – للحد من توسّع رقعة النزاع في المنطقة.
من حيث الشكل، لم يأتِ تصريح العماد عون ضمن خطاب رسمي موجّه إلى الأمة أو عبر مؤتمر صحافي، بل ورد في سياق حديث مع مجموعة من الصحافيين الاقتصاديين زاروه في قصر بعبدا، ما يضفي على الموقف طابعًا مرنًا يسمح بتأويلات متعددة. إلا أن المضمون لا يقلّ أهمية، إذ يشير إلى انفتاح رئاسي على تسوية ممكنة، ربما تتجاوز المسائل التقنية المعهودة، مثل ترسيم الحدود البحرية، نحو نقاش أوسع حول خفض التوتر وإرساء نوع من التفاهم الحدودي.
وعلى وقع هذا التصريح، عُلم أن اجتماعًا وشيكًا سيُعقد بين الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء)، للبحث في خلفيات الموقف الرئاسي وتحديد الإطار السياسي والوطني الجامع لأي خطوة تفاوضية محتملة. فالنظام السياسي اللبناني، القائم على التوازنات الطائفية والدستورية الدقيقة، لا يسمح بقرارات مفصلية ذات بُعد سيادي كالتفاوض مع دولة عدوة دون توافق وطني شامل.
والموقف الرئاسي أيضًا لا يمكن قراءته بمنأى عن دور “حزب الله” وتأثيره في القرار السيادي اللبناني، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع إسرائيل. فالحزب، المُصنَّف مقاومة لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين، والذي ما يزال الفاعل العسكري الأبرز، لم يُصدر حتى الساعة ردًّا رسميًا على تصريحات عون. غير أن مصادر متابعة تعتبر أن أي تفاوض لا يمكن أن يتم دون ضوء أخضر ضمني من الحزب، أو على الأقل تفاهم ضمني حول الإطار وحدوده، لا سيّما أن الحزب أعلن مرارًا أن لا تفاوض مباشرًا أو غير مباشر مع إسرائيل خارج إطار استعادة الحقوق الوطنية الكاملة.
وهذا الحديث عن وساطة أميركية يعيد إلى الواجهة دور الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية، الذي تُوِّج في 2022 باتفاق أتاح للبنان التنقيب عن ثرواته الغازية في مياهه الاقتصادية. ومع أن ذلك الاتفاق لم يكن “تطبيعًا”، إلا أنه مهّد لنموذج من التفاوض غير المباشر، برعاية وضمانات أميركية، ويبدو أن الولايات المتحدة تسعى اليوم لإعادة تفعيل هذا الدور في إطار محاولاتها الحثيثة لاحتواء النزاع بين لبنان وإسرائيل.
من هنا، يضع البعض تصريحات رئيس الجمهورية في خانة الواقعية السياسية التي تمليها الظروف الضاغطة التي يمر بها لبنان، على مختلف الصعد. فالتحوُّل الكبير في الشرق الأوسط، والانقسام السياسي الداخلي الحاد، كلّها عوامل تدفع نحو البحث عن مخرج، حتى وإن كان عبر قنوات تفاوض مع عدو تاريخي. كما أن الضغط الدولي المتزايد لمنع توسّع الحرب في الجنوب قد يكون لعب دورًا في فتح باب كهذا، ولو إعلاميًا.
إزاء ما تقدّم، لا يمكن الجزم بعد بما إذا كانت هذه التصريحات تمثّل تحوّلًا استراتيجيًا في موقف الدولة اللبنانية من إسرائيل، أم أنها مجرد تكتيك سياسي ظرفي. إلا أن مجرّد طرح فكرة التفاوض، ولو بشروط، على لسان أعلى سلطة في البلاد، يشير إلى تغيّر في أدبيات الخطاب الرسمي، يستوجب مراقبة حذرة لما سيصدر عن اجتماع الرؤساء الثلاثة – في حال حصوله – وما سيتبع ذلك من مواقف لدى الأطراف الداخلية والخارجية الفاعلة.
في انتظار ذلك، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة، لكن الثابت الوحيد هو أن لبنان على مفترق طرق جديد، يتطلب أكثر من أي وقت مضى وضوحًا في الرؤية، وتماسكًا في القرار الوطني.