صدى المجتمع

فك شيفرة أحد أكبر ألغاز الفيزياء في العالم.

أجاب عدد من علماء الفيزياء عن سؤال مطروح منذ أمد طويل حول ما إذا كانت المادة المضادة antimatter [في الفيزياء الذرية تملك هذه المادة مواصفات معاكسة للمادة التي نعرفها وتؤلف الكون كله] تسقط إلى الأعلى أو إلى الأسفل تحت تأثير الجاذبية في تقدم من شأنه أن يساعد في حل أحد أكبر الألغاز حول السبب وراء كون كل شيء تقريباً في الكون مصنوعاً من المادة [مع تفاعلاتها] وحدها.

[وفق نظرية الانفجار العظيم يفترض أن طاقة ذلك الانفجار ابتردت تدريجياً فتشكلت الذرات التي تكون المادة وتتضمن قواها، بموازة تشكل كمية مساوية من ذرات المادة المضادة وقواها، والمفارقة أن العلماء لم يعثروا أبداً على المادة المضادة بصورة طبيعية، لكنهم يستطيعون توليدها بأساليب الفيزياء الذرية في المختبرات. إذاً أين ذهبت كل تلك المادة المضادة؟ وكذلك يشير العلماء إلى أن لقاء ذرة مادة مع نظيرتها من المادة المضادة يؤدي إلى تبددهما معاً، مع تولد كميات كبيرة من الطاقة].

وجدت هذه الدراسة الجديدة التي نشرت في مجلة “نيتشر”Nature الأربعاء الماضي أن المادة المضادة تسقط إلى الأسفل تحت تأثير الجاذبية، بحسب توقعات سابقة لدى مجموعة واسعة من المجتمع العلمي.

وتذكيراً تتكون المادة المضادة من جسيمات [تشبه تلك الموجودة في ذرات المادة العادية] تمتلك شحنة كهربائية معاكسة للجسيمات العادية، فمثلاً المادة المضادة للإلكترون، وهو جسيم له شحنة كهربائية سلبية في المادة العادية، هي “بوزيترون” positron [أو الإلكترون الإيجابي الشحنة الكهربائية، ويعني ذلك أنه يتشابه مع الإلكترون في كمية الشحنة الكهربائية لكن طبيعتها معاكسة، فتكون إيجابية]. وإذا تصادم الإثنان ببعضهما بعضاً يفنيان معاً [في انفجار تنتج منه طاقة في صورة] أشعة “غاما”gamma .

ولاحظ العلماء أن أحد أغرب أسرار الكون تكمن في أن كل المادة تقريباً التي يسعنا أن نراها في الكون مصنوعة من مادة عادية، مع غياب كلي للمادة المضادة.

ووفق الباحث المشارك في الدراسة من “جامعة كالغاري” في كندا روبرت طومسون، “في الوقت الحاضر ليس في جعبتنا تفسير يخبرنا عن مكان وجود كل المادة المضادة [المفترض وجودها] في الكون، وكي نجد حلاً لهذا اللغز نعمل على اختبار عناصر فيزياء المادة المضادة لنعرف مدى إمكان أن نعثر على تنافر ما [فيكون من الأدلة على وجود المادة المضادة]”.

في الدراسة الجديدة أجرى العلماء تقييماً لخصائص الجاذبية الخاصة بالهيدروجين المضاد antihydrogen مع الإشارة إلى أن الهيدروجين أبسط ذرة في الكون، ويفترض أن تكون هناك ذرات هيدروجين مضاد تعاكس في خصائصها الهيدروجين العادي.

على سطح الأرض حينما تسقط أي مادة من أي ارتفاع نحو سطح الكوكب فإنها تسير تحت تأثير الجاذبية الأرضية بمعدل تسارع ثابت يبلغ نحو 9.8 أمتار في الثانية (م/ ث2)، وتلك قيمة ثابتة رياضياً تستخدم في حسابات الفيزياء تعرف باسم التسارع الناتج من الجاذبية الأرضية التي يرمز لها في الفيزياء بـ”جي”g. [التسارع هو معدل التبدل في السرعة بالنسبة إلى نفسها، أي أنها السرعة في السرعة، مما يجعلها تقاس بتربيع الثانية لأن السرعة هي المسافة التي تقطع ضمن وقت معين].

ووفق الفيزيائيين، مع النهوض الآن بالدراسة الرائدة الأحدث، فإن قيمة تسارع ذرة الهيدروجين المضاد هذه، مع الأخذ بعين الاعتبار هامش الخطأ في التجربة، “تتوافق مع تسارع الجاذبية [للمادة العادية] نحو الأسفل بمقدار 1 جي أو نحو “32 قدماً لكل ثانية في الثانية” [أي أننا إذا سقطنا لمدة ثانية واحدة سنصل إلى سرعة 32 قدماً في الثانية، وبعد ثانيتين نصل إلى 64 قدماً في الثانية].

وكذلك يعتبر الباحثون أن هذه التجربة التي تشكل سابقة من نوعها هي بمثابة علامة فارقة في الفيزياء، وأنها تمثل “قفزة إلى الأمام” في عالم بحوث المادة المضادة.

استخدم الباحثون جهاز “ألفا- جي” ALPHA-g الجديد الذي يعمل في “المنظمة الأوروبية للبحوث النووية”، اختصاراً “سيرن”CERN ، أكبر مختبر للفيزياء في أوروبا.

وفي هذه التجربة ابتكر الفيزيائيون مادة هيدروجين مضادة وأمسكوا بذراتها المحايدة [ذرات المادة العادية تكون محايدة أيضاً نظراً إلى التوازن بين العناصر الإيجابية للشحنة الكهربائية في النواة والإلكترونات السلبية الشحنة]، وحبسوها في إطار مغناطيسي، وأحاطوا ذلك كله ببيئة باردة قدر الإمكان.

وفي مرحلة لاحقة أسقطوا ذرات الهيدروجين المضاد داخل أنبوب عمودي لمشاهدة وقياس سلوك الجاذبية [لتلك المادة المضادة] في حال السقوط الحر [أي الذي لا تؤثر فيه عوامل أخرى سوى الجاذبية].

وهكذا رصد العلماء الخصائص الفيزيائية للهيدروجين المضاد من طريق الاضطلاع بعمليات قياس دقيقة، بما في ذلك شحنته الكهربائية وطيف الألوان المرافق له.

وفي الحقيقة تعتبر هذه الدراسة المهمة الخطوة الأولى في أخذ قياسات دقيقة لخصائص الجاذبية للمادة المضادة بغرض تبيان إذا كانت المادة المضادة تسقط بالطريقة عينها التي تسقط بها المادة العادية [بمعنى أنها تخضع لقوة الجاذبية على قدم المساواة مع المادة العادية].

وكتب علماء هذه الدراسة، “ههنا نظهر أن ذرات الهيدروجين المضاد التي انطلقت من الحبس المغناطيسي في جهاز ’ألفا- جي‘ تتصرف بطريقة تتفق مع جاذبية الأرض”.

وكذلك استبعد الباحثون أيضاً وجود “الجاذبية المضادة” [قوة معاكسة للجاذبية الأرضية] الطاردة أو النابذة في هذه الحال، وهي اكتشاف يمكن أن تساعد في فهم أفضل لنقص المادة المضادة في الكون. [وفق قوانين الفيزياء لنيوتن وآينشتاين تملك كل مادة قوة جاذبية تتناسب مع كتلتها أساساً، وثمة علماء يعتقدون أن المادة المضادة قد تمتلك جاذبية مضادة، بمعنى أنها تنبذ وتبعد، لأنه يفترض أنها مضادة. وتملك تلك الرؤية تفرعات كثيرة تتعلق بالقوى الموجودة في ذرات المادة المضادة لو أنها امتلكت جاذبية مضادة، وتتصل تلك الرؤى أيضاً ببعض مفاهيم الفيزياء الكمومية التي تختلف في نظرتها إلى الكون عن نظريات نيوتن وآينشتاين].

ووفق باحث آخر في تلك الدراسة وهو تيموثي فريسن، “نعلم بوجود مشكلة في مكان ما في الميكانيكا الكمومية والجاذبية لكن ما زلنا نجهلها”، مشيراً إلى أن “تكهنات كثيرة كانت تحيط بما عساه يحدث إذا أسقطت مادة مضادة، على رغم أنها لم تخضع للاختبار قبل الآن لصعوبة إنتاجها وضعف الجاذبية الشديد”. [لو امتلكت المادة المضادة قوة جاذبية مضادة فيفترض أن سقوطها بفعل جاذبية الأرض يكون مغايراً لسقوط المادة العادية، أي يفترض أنها لا تتسارع بمقدار “جي”. ويفتح ذلك الأمر آفاقاً معقدة ومتشابكة في النقاشات عن المادة والطاقة].

ووفق رأي العلماء فإن الاكتشاف الجديد يفتح الباب أمام النهوض بدراسات أكثر دقة حول مدى تسارع الذرات المضادة تحت تأثير قوة الجاذبية الأرضية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى