أن توسّع محكمةٌ العرض السياسي أمام الناخبين التونسيين
كتب المهدي مبروك في صحيفة العربي الجديد.
أعادت المحكمة الإدارية في تونس إلى سباق انتخابات الرئاسة، في قرار تاريخي، ثلاثة مترشّحين، ليصبح المترشّحون ستةّ، بمن فيهم الرئيس الحالي قيس سعيّد. والطريف أنّ الثلاثة يمثّلون عائلات سياسية مختلفة تمثّل الإرث السياسي التقليدي لتونس الحديثة. وقد أضافت المحكمة في جلستها العامة عبد اللطيف المكّي، وهو أحد وزراء حكومة حركة النهضة بعد الثورة، كما كان وزيراً للصحّة مباشرة قبل الانقلاب في حكومة إلياس الفخفاخ، وقاد معركة البلاد ضدّ “كوفيد 19″، ويسمّيه مناضلو الحركة “الجنرال”. استقال من “النهضة” بُعيد الانقلاب (25 يوليو/ تمّوز 2021) إثر خلافات حادّة مع قيادتها، وتحديداً خطّ راشد الغنّوشي. جُوبهت استقالته بانتقادات حادّة من إخوانه، واعتبروا ذلك طعنةً في الخلف تُوجّه للحركة وهي تواجه حملةً شرسةً من الاعتقالات قادها الرئيس الحالي. ذهب المكّي إلى تأسيس “حزب العمل والإنجاز”، ولكنه يظلّ لدى الرأي العام “نهضوياً” أو على الأقلّ إسلامياً.
المرشّح الثاني الذي أنصفته المحكمة الإدارية، منذر الزنايدي، وزير الصحّة في نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، اختار فرنسا منفىً له بعد الثورة. لم يتورّط في جرائم سياسية أو مالية تلاحقه. يُحسب على جناح المعتدلين والمنفتحين في العائلة الدستورية (حزب التجمع الدستوري الديمقراطي)، وترأّس سابقاً فريق الترجّي الرياضي، أكبر الفرق الرياضية التونسية. رجل أعمال وله صلات وثيقة مع أوساط الأعمال والمال في البلاد، التي ضاقت ذرعاً بالتضييقات التي تلاحقهم.
المترشّح الثالث الذي انضمّ إلى المتسابقين عماد الدايمي، مدير ديوان الرئيس السابق المنصف المرزوقي، يقيم أيضاً في منفاه الفرنسي. عاد منه بعد الثورة، وقد هرب إلى فرنسا إبّان حكم بن علي، وعاد إليها في مفارقة عجيبة بعد الانقلاب مُجدّداً. عرف الدايمي بعد انتهاء تجربة حكم الترويكا بإدارته مرصد رقابة شهير تخصّص في فضح الفساد. خاض صراعاتٍ قضائيةً مع مؤسّساتٍ ومواقعَ نفودٍ، منها الاتحاد العام التونسي للشغل. نشأ في الجنوب التونسي، ومنها يستمدّ مشروعيته ووجاهته. أيدولوجياً يُعّدُّ من المحافظين، وهو أقرب إلى خطّ المرزوقي؛ الهوية العربية مع محافظة اجتماعية واستقامة خلقية. خاض صراعاً مع الانقلاب، وكان الصوت الجريء منذ بداية حملة الترشّحات الانتخابية.
على هذا النحو، وسّعت المحكمة الإدارية أمام التونسيين العرض السياسي، ليجدوا أنفسهم أمام خيارات عديدة، خصوصاً إذا ما استحضرنا المرشّحين الثلاثة الأوائل الذين وافقت عليهم الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات؛ العيّاش الزمّال، رجل الأعمال وعضو البرلمان الأسبق والقريب جدّاً من بقايا حزب التجمّع المنحلّ، وأمين عام حزب حركة الشعب زهير المغزواي ممثّلاً طيفاً واسعاً من الفصائل السياسية العروبية، إضافةً إلى الرئيس سعيّد الممثّل تيّاراً شعبوياً مناهضاً منظومة الثورة ومشهديها السياسي والثقافي.
قد نشهد ربّما تحالفات انتخابية غريبة، كأن يتحالف الإسلاميون والتجمّعيون لهزيمة الرئيس الحالي، أو كأن يتحالف الإسلاميون مع القوميين لإيقاف نزيف الشعبوية الذي يمثّلها سعيّد
ستظلّ التفاصيل القانونية مفتوحةً لجدل حادّ بين فقهاء القانون، خصوصاً في ظلّ تصريحات مقتضبة أعلن فيها رئيس الهيئة العُليا المستقلّة للانتخابات فاروق بوعسكر أنّ القرار النهائي في قبول المترشّحين “يظلّ من اختصاص هيئته، وليس المحكمة، وأنّه سيعلن المقبولين بعد “اطّلاعه على حيثيات الحكم”، وهذه تصريحات قد أثارت خشيةً حقيقيةً من أن تلعب الهيئة مرّة أخرى دور المصفاة التي تنتقي من سينافس الرئيس. وبقطع النظر عن جدّية هذه المخاوف التي قد تفتح المسار الانتخابي على المجهول، فإنّ العرض السياسي قد بدا ممثّلاً الطيفَ السياسي الواسع للناخبين، وذلك ما سيكون مُحفّزاً للإقبال على الانتخابات المقبلة، خصوصاً أنّ الانتخابات التي انتظمت كلّها خلال فترة ما بعد الانقلاب شهدت عزوفاً غير مسبوق. ففي آخر انتخابات (ديسمبر/ كانون الأول 2023) التي اختار فيها المواطنون ممثّليهم في المجالس المحلّية (الغرفة النيابية الثانية)، لم يتوجّه إلى صناديق الاقتراع سوى ما يناهز 12%. ستكون لهذه المُؤشّرات القانونية كلّها تداعيات سياسية مهمّة في السباق الانتخابي، خصوصاً في ظلّ الارتفاع المتوقّع في نسبة الإقبال على الانتخابات المقبلة. والأرجح أنّ الرئيس الحالي سيُجبَر على خوض دور ثانٍ مع أحد المرشّحين، وهو الذي كان يأمل أن يفوز من الدور الأول. تفيد المُؤشّرات بأنّ هذا الأمر غدا حلماً بعيدَ المنالِ خصوصاً إذا ظلّ العرض السياسي السداسي قائماً.
كما أنّ ديناميات التحالفات السياسية ستنشط، لنشهد، ربّما، تحالفات انتخابية غريبة، كأن يتحالف خصوم الأمس (ما قبل الثورة)، أيّ الإسلاميين والتجمّعيين، من أجل إلحاق الهزيمة بالرئيس الحالي، أو كأن يتحالف الإسلاميون مع القوميين من أجل إيقاف نزيف الشعبوية الذي يمثّلها سعيّد. المشهد الانتخابي مفتوح على الاحتمالات كلّها، بما فيها تأخير الانتخابات أو تغيير قواعد اللعبة من خارج القانون الانتخابي. لا ننسى أنّنا أمام حالة سياسية تفتقد إلى العقلانية في مناح عدّةٍ وقد تصل إلى حدّ العبث.