صورة ألمانية قبيحة
كتب أسامة الرشيدي, في “العربي الجديد”:
نجت ألمانيا مؤقتاً، في الدعوى التي رفعتها نيكاراغوا أمام محكمة العدل الدولية تطالب بمنع برلين من تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، بعد قرار المحكمة بعدم اختصاصها في هذا الشأن. لكنّ ألمانيا بالتأكيد، لن تنجو من صورتها التي تحطّمت إلى الأبد.
كانت الصورة الذهنية عن ألمانيا، في العالمين العربي والإسلامي، يغلب عليها الإعجاب لأسباب عدّة، من بينها، الدقّة والنظام اللذان اشتهرت ألمانيا بهما، والصناعة التي غزت العالم في مجالات عدّة، خاصة في مجالات الآلات والسيارات والأجهزة، ونهوض البلاد السريع بعد حربين عالميتيْن مُدمّرتيْن، حتّى أصبحت أقوى اقتصاد في أوروبا، وقبلة للحالمين بالهجرة إلى وطن جديد. كما لم ترتبط ألمانيا في أذهان العرب والمسلمين بالماضي الاستعماري لدول أوروبية أخرى، مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وهولندا وبلجيكا، إذ اقتصر تاريخها الاستعماري على مناطق في أفريقيا مثل ناميبيا والكاميرون وبوروندي ورواندا وتنزانيا وتوغو وغانا، والصين وبابوا غينيا الجديدة، وجزر عديدة في غرب المحيط الهادئ، وهي دول بعيدة جغرافياً عن الوطن العربي، ولذلك لم تُعرف الجرائم المرتبطة بهذا الاستعمار على نطاق واسع طوال العقود الماضية.
دحضت معركة طوفان الأقصى خرافةً أنّ الحكومات الأوروبية، ومنها حكومة أولاف شولتز، حائط صدّ ضدّ من يُطلق عليهم “اليمين المتطرّف”
وحتى محاولات التمدّد الألماني الفاشلة في القارّة العجوز، خلال الحربيْن العالميتيْن، كانت موضع ترحيب في أحيان كثيرة لدى الدول المُحتلّة، بناء على قاعدة “عدوّ عدوّي صديقي”. إذ أملت الشعوب المُستضعَفة في هزيمة دول الحلفاء، لأنّ الأخيرة كانت تحتلّ معظم أنحاء العالم الإسلامي. كما أنّ ألمانيا كانت متحالفة مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، مع ما يرتبط بذلك من مشاعر دينية متأججة. أمّا في الحرب العالمية الثانية، فقد لقيت حملة الجيش النازي في شمال أفريقيا تشجيعاً كبيراً، وخرج المصريون على سبيل المثال، هاتفين “إلى الأمام يا روميل”، وذلك أملاً في تخليصهم من الاحتلال البريطاني، الذي كان جاثماً على صدورهم منذ عام 1882. حتّى إن إشاعة انتشرت وقتها، تزعم إن زعيم الرايخ الثالث أدولف هتلر اعتنق الإسلام، وغيّر اسمه إلى “محمد هتلر” (!). وحتى بعد هزيمة ألمانيا، لم تتغير المشاعر تجاهها، لسببيْن رئيسييْن، الأوّل: التعاطف الطبيعي مع المهزومين، والثاني: احتلال فلسطين وإنشاء إسرائيل عام 1948، مما نشر مشاعر الكراهية تجاه الصهاينة، لدرجة أنّ بعضهم برّر ما فعله هتلر باليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو أمر خاطئ بلا شك، لكنّه كان تعبيراً عن الغضب أكثر من أي شيء آخر.
في الحرب العالمية الثانية، لقيت حملة الجيش النازي في شمال أفريقيا تشجيعاً، وخرج المصريون هاتفين “إلى الأمام يا روميل”
إلا أنّ تجربة الرايخ الثالث، تسبّبت في نتائج سلبية غير مباشرة على الشعوب العربية، إذ مثّلت مصدر إلهام لعسكرٍ عديدين استولوا على السلطة بدءاً من أربعينيات القرن العشرين، وظهر ذلك واضحاً في السلوك الشخصي لعدد من الرؤساء العسكريين، وكذلك في سياساتهم الداخلية والخارجية، وغيرها من الاقتباسات التي يضيق المقام عن ذكرها في هذا المقال. لكنّ الصورة الإيجابية استمرت هي الغالبة، حتّى اندلاع معركة طوفان الأقصى، لنجد الوجه المظلم يطلّ علينا، من دعم مطلق للوحشية الإسرائيلية، على حساب دماء الفلسطينيين الأبرياء، وإمداد الاحتلال بالسلاح والذخيرة، وآخرها تصدير آلاف القذائف لمساعدة تل أبيب على تدمير قطاع غزّة، وحتّى إعلان رفضهم لوقف إطلاق النار في القطاع، رغم عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمشردين، وأخيراً، إعلان الحكومة الألمانية وقوفها إلى جانب إسرائيل ضدّ الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّها أمام محكمة العدل الدولية، ووجّهت إليها تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين. كما انتشرت قصص الفظائع التي ارتكبتها ألمانيا في أفريقيا، وعرف الجميع أنّها كانت صاحبة أول جريمة إبادة جماعية في القرن العشرين ضدّ السكّان الأصليين في ناميبيا، حتّى إنّ الاعتذار الذي قدّمته برلين عن هذه الإبادة كان وقحاً، إذ تعهدت بدفع 1.1 مليار يورو فقط، وعلى مدار 30 عاما(!) والأكثر وقاحةً، أن يُقال، في سياق تبرير هذه السياسات الإجرامية، إنّها محاولة للتكفير عن ذنب ما فعلته ألمانيا النازية في حقّ اليهود في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، أيّ أنّهم تسبّبوا في المشكلة من البداية عبر اضطهاد اليهود وقتلهم، ثم يريدون أن يصدّروا المشكلة في وجوهنا، على شكل دعم للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين (!)
دحضت معركة طوفان الأقصى كذلك، خرافةً كان يُراد تسويقها لنا طوال العقود الماضية، عبر تصوير الحكومات الأوروبية، ومنها حكومة المستشار الألماني أولاف شولتز، باعتبارها حائط صدّ ضدّ من يُطلق عليهم “اليمين المتطرّف”، والمثير للسخرية، أنّ هذه الحكومة تضمّ حزب الخضر، الذي يُقدّم نفسه باعتباره مناصراً للبيئة (!) فإذا بسياسات هؤلاء تجاهنا لا تختلف أبداً عمّا يُمكن أن يمارسه أحطّ العنصريين وحشية، وإذا بما تسمى “العقلية الألمانية” لا تختلف كثيراً عن عقلية المجرمين النازيين. واستكمالاً للمسخرة الألمانية، ربّما نجد أنّ حزب الخضر سيطالب بوقف إطلاق النار بدعوى أنّ دخان القذائف الإسرائيلية وعوادم دباباتها تلوّث البيئة (!)