الانفتاح الخليجي على إيران: تحوّل إستراتيجي أم وهم جديد

كتب محمد الحمادي في صحيفة العرب.
النظام الإيراني أدرك الآن أن الانفتاح الخليجي عليه لا يعني الضعف بل الحكمة السياسية غير أن هذه الحكمة لا تعني التساهل فالتجارب السابقة كانت قاسية.. والذاكرة لا تزال حية.
مرت ثلاثة أسابيع على انتهاء الحرب الإيرانية – الإسرائيلية المحدودة أو وقف المواجهة العسكرية المباشرة بين البلدين – كما يحب أن يسميها البعض – فقد اتفق الطرفان في 24 يونيو الماضي على إيقاف تبادل الهجمات بعد حرب دامت اثنى عشر يوما، كانت فيها المنطقة على شفا جرف هاو، بسبب التهور الإسرائيلي – الإيراني، ولولا الحكمة الخليجية والإرادة الدولية لوصل الحال إلى غير ما نحن عليه اليوم.
ما يهمنا في منطقة الخليج هو تداعيات هذه الحرب سياسيا وأمنيا على المنطقة، وكذلك يهم دول المنطقة ضمان ألاّ تتكرر مثل هذه المواجهات التي قد لا يمكن السيطرة عليها!
الأثر الجانبي الإيجابي لهذه الحرب هو ما تشهده منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى ما يبدو أنه انفراج في العلاقات بين إيران وجيرانها من دول الخليج العربية، والبعض يراهن أننا أمام مرحلة جديدة ومختلفة في هذه العلاقات، لكن من يعرف تاريخ هذه العلاقات، يدرك أن هذه ليست المرة الأولى التي تُطلق فيها وعود بالتهدئة، سرعان ما تتبعها خيبات.
السؤال الحقيقي هو: هل الانفتاح الخليجي على إيران تحوّل إستراتيجي أم وهم جديد؟
بالعودة إلى الوراء خلال أكثر من أربعة عقود، يلاحظ كل مراقب أن دول الخليج العربية بادرت مرارًا إلى فتح أبواب الحوار مع طهران، لكنها غالبًا ما فوجئت بسياسات مزدوجة: دبلوماسية ناعمة في العلن، وتدخلات خفية عبر الميليشيات في الخفاء.
• في أوائل الثمانينات، وبعد قيام الثورة الإيرانية، امتنعت دول الخليج عن التصعيد، رغم شعارات “تصدير الثورة” ومحاولات طهران زعزعة الاستقرار في البحرين والكويت.
• عام 1998، زار الرئيس الإيراني محمد خاتمي السعودية في خطوة وُصفت آنذاك بـ”التاريخية”. لكن التفاؤل لم يدم، إذ عادت المؤسسات المتشددة في إيران إلى سياسات التوسع والهيمنة.
• بعد 2003، استغلت طهران الفراغ في العراق لتعزيز نفوذها الإقليمي، فامتد حضورها إلى لبنان وسوريا، ووصل لاحقًا إلى اليمن، حيث دعمت الحوثيين الذين استهدفوا العمقين السعودي والإماراتي بالصواريخ والطائرات المسيّرة.
• وفي 2016، تم اقتحام السفارة السعودية بطهران، فأدانت واستنكرت دول الخليج هذا الاعتداء، قطعت الرياض علاقاتها مع طهران وفضلت باقي دول الخليج اتباع دبلوماسية التهدئة، تجنبا لأيّ تصعيد عسكري مباشر.
وعلى الرغم من كل هذه المبادرات، ظل النظام في إيران يسير على خطين متوازيين: الانفتاح الظاهري، والتصعيد الإقليمي على الأرض.
مرحلة جديدة أم مجرد تغيير في الواجهة؟
وتأكيدا على حسن النية الخليجية واستمرارا لمد اليد إلى إيران تم في 2023 الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية، ولفت هذا الاتفاق أنظار العالم. لكنه بالنسبة إلى دول الخليج لم يكن احتفالًا، بل كان رسالة جديدة للعالم بأن السعودية والخليج دائما يبحثان عن السلام والحوار وعن البناء والتنمية.
الاتفاق لم يصل جذور الأزمة، ونجح في استعادة العلاقات الدبلوماسية، وبلا شك أنه كان مهمّا لأنه فتح الأبواب بين الجانبين وأبقاها مفتوحة إلى الآن.
حتى يكون لهذا التقارب الخليجي – الإيراني معنى حقيقي، ينبغي على إيران أن تغيّر سلوكها الإقليمي فعليًا:
• وقف دعم الجماعات المسلحة في اليمن والعراق ولبنان وسوريا.
• التخلّي عن توظيف الطائفية كأداة نفوذ سياسي.
• القبول بتسويات سلمية في النزاعات، مثل قضية الجزر الإماراتية المحتلة.
الكرة الآن في ملعب إيران. فدول الخليج أثبتت مرارًا استعدادها للانفتاح، وفي الحرب الأخيرة كانت أكثر انفتاحا ووضوحا بل ودعما لإيران ووقوفا إلى جانبها.
لذا لم تجد إيران من تستعين به في هذه الحرب أفضل من دول الخليج وأدركت طهران أن هذه الدول هي فقط من تستطيع أن تساعدها في إيقاف نزيف الخسائر التي تكبدتها على يد إسرائيل، ورأت طهران النتائج بشكل مباشر وواضح فلم تقف دول الخليج مكتوفة الأيدي بل عملت بشكل حكيم ودون ضجيج لإنهاء مأزق طهران من خلال الضغط على واشنطن لتخفيف ضغط إسرائيل، ومن خلال التذكير المستمر بأن أيّ حرب جديدة ستضرب أمن المنطقة واستقرار أسواق النفط ونجحت دول الخليج نجاحا كبيرا في ذلك ما يتطلب من طهران تقديرا في مستوى الموقف.
المرحلة الحالية لا تتعلق فقط بإيران، بل بتغيّر أعمق في فلسفة الخليج الإقليمية. لم تعد دول الخليج العربية تكتفي بردّ الفعل، بل أصبحت تملك أجندة طموحة لبناء علاقات دولية أساسها ترسيخ الثقة والاحترام والتأثير وامتلاك قوة اقتصادية وتكنولوجية مستقلة.
يفترض أن النظام الإيراني أدرك الآن أن الانفتاح الخليجي عليه لا يعني الضعف، بل الحكمة السياسية غير أن هذه الحكمة لا تعني التساهل فالتجارب السابقة كانت قاسية.. والذاكرة لا تزال حية ودول الخليج ما تزال تنتظر الخطوة الإيرانية التي يبدو أنها تأخرت!