انتصار دبلوماسي للرباط: زوما يُسقط دعم ميليشيا بوليساريو

كتب البراق شادي عبد السلام في صحيفة العرب.
التواصل يؤكد قدرة الدبلوماسية المغربية على بناء جسور مع الفاعلين السياسيين الصاعدين في القارة وتجاوز المواقف التقليدية للحكومات وصولاً إلى قلب شبكات التأثير السياسية مع الالتزام بالقوانينوالأعراف الدبلوماسية.
شهدت العاصمة المغربية الرباط مؤخرًا حدثًا دبلوماسيًا ذا دلالات إستراتيجية عميقة تمثّل في إعلان جاكوب زوما، زعيم حزب “أومكونتو ويسيزوي” الجنوب أفريقي، والقوة السياسية الثالثة في البلاد، دعمه لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل نهائي وحيد للنزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء.
هذا الإعلان، الذي جاء عقب مباحثات رفيعة المستوى مع ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، لا يعكس موقفًا حزبيًا عابرًا يندرج في إطار حملة انتخابية تستفيد من الإرث النضالي لزوما، بل يرسخ بوضوح تقاربًا دبلوماسيًا مباشرًا مرتقبًا بين المملكة المغربية وقوة سياسية وازنة في جمهورية جنوب أفريقيا.
كما يؤشر إلى قدرة الدبلوماسية المغربية، بكل أفرعها، على بناء قنوات تواصل فعالة مع النخب السياسية الجديدة والمؤثرة داخل جنوب أفريقيا، مدفوعة بإيمان هذا الحزب بضرورة تقدم القارة الأفريقية نحو الوحدة والاستقرار، وإعادة تقييم المسارات السياسية السابقة التي قيّدت دور جنوب أفريقيا الإقليمي، وجعلت من دولة ذات تراث نضالي وديمقراطي عريق أداةً في خدمة أجندات انفصالية ومخططات توسعية استعمارية للنظام العسكري في الجزائر.
يُعد هذا الموقف، الصادر من قلب مركز الدبلوماسية المغربية في الرباط، رسالة سياسية مباشرة وواضحة إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم (ANC). فدعم جاكوب زوما لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يؤكد أن الموقف المغربي يكتسب تأييدًا متزايدًا بين النخب السياسية الجنوب أفريقية، وأن هناك أصواتًا فاعلة تدعو إلى مراجعة شاملة للسياسة الخارجية التقليدية تجاه قضية الصحراء المغربية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال حصر هذا الموقف ضمن إطار حزبي محدود؛ بل يمكننا بثقة اعتباره إرهاصًا لتحول محتمل في السياسة الخارجية لجنوب أفريقيا تجاه قضية الصحراء، ما يضفي شرعية إضافية ويعزز مكانة مقترح الحكم الذاتي كحل نهائي وواقعي يحظى بإجماع أممي وقاري متزايد.
كما استحضر الرئيس السابق لجنوب أفريقيا وزعيم حزب “أومكونتو ويسيزوي” جاكوب زوما “لقاءه التاريخي” مع الملك محمد السادس عام 2017، على هامش قمة الاتحاد الأفريقي – الاتحاد الأوروبي في كوت ديفوار، والذي “أعطى زخمًا جديدًا للعلاقات الثنائية بين البلدين.” هذا الاستحضار يؤكد أن موقف زوما ليس وليد اللحظة، بل نتاج مسار دبلوماسي طويل، يعكس تقديرًا للدور المغربي على الساحة الأفريقية.
يشهد المشهد السياسي في جنوب أفريقيا تحولات لافتة مع صعود حزب “أومكونتو ويسيزوي”، الذي يقوده جاكوب زوما. هذا الحزب، الذي أصبح قوة معارضة صاعدة، يحمل إمكانية تغيير الديناميكيات السياسية الداخلية، بل وحتى التأثير على المواقف الدبلوماسية لجنوب أفريقيا، بما في ذلك قضية الصحراء المغربية.
ويُعتبر الحزب فاعلًا سياسيًا مؤثرًا بفضل الثقل السياسي والتاريخ النضالي لزعيمه، الذي كان قياديًا بارزًا في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. ففي ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة في جنوب أفريقيا، التي تفاقمت بسبب الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية، يمتلك الحزب القدرة على التأثير بشكل كبير في نتائج الانتخابات الوطنية والمحلية، ما قد يدفع الحزب الحاكم إلى إعادة تقييم إستراتيجيته وتحالفاته.
إن إعلان جاكوب زوما دعمه لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، الذي جاء من الرباط وعقب مباحثات رفيعة المستوى مع ناصر بوريطة، يحمل دلالات إستراتيجية عميقة وموجهة. فالمملكة المغربية، من خلال هذا الاستقبال، تؤكد انفتاحها الدائم على المبادرات الجادة والمسؤولة من جمهورية جنوب أفريقيا، التي تخدم مصالح شعوب أفريقيا. فالتوقيت والموقع يرسخان بوضوح التقارب الدبلوماسي بين المملكة وقوة سياسية صاعدة بحجم “أومكونتو ويسيزوي”. كما يشير إلى قدرة الدبلوماسية المغربية على بناء قنوات تواصل فعالة مع النخب السياسية الجديدة والمؤثرة داخل جنوب أفريقيا، مدفوعة بإيمان الحزب الراسخ بضرورة تقدم القارة الأفريقية نحو الوحدة والاستقرار عبر مراجعة مسارات سياسية سابقة.
لا يمكن بأيّ حال من الأحوال حصر هذا الموقف ضمن إطار حزبي محدود؛ بل يمثل إرهاصًا لتحول محتمل في السياسة الخارجية لجنوب أفريقيا تجاه قضية الصحراء. ويستند هذا التقييم إلى الثقل السياسي الوازن لـ”أومكونتو ويسيزوي”، الذي رسّخ مكانته كقوة ثالثة في الانتخابات الأخيرة، فضلاً عن رمزية زعامة جاكوب زوما الذي يمثل شخصية ذات رصيد نضالي تاريخي وتأثير يتجاوز النفوذ الحزبي الضيق. فهذا التباين الجوهري مع الخط التقليدي لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي طالما تمسك بدعم بوليساريو، يشير إلى بروز تيارات فكرية جديدة داخل النخبة السياسية الجنوب أفريقية. ويعكس هذا التحول توجهًا أعمق يتجاوز الحسابات الانتخابية المؤقتة، ويتجذر في قناعة راسخة بضرورة إعادة تقييم السياسات الخارجية التي قيّدت دور جنوب أفريقيا الإقليمي لصالح دعم أجندات انفصالية.
إضافة إلى ذلك، يعزز هذا الدعم الشرعية الدولية لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي وذي مصداقية. وهذا التوافق المتزايد، خاصة من أطراف كانت تُعد تقليديًا من أشد معارضي الموقف المغربي، وقادت حملات دولية وقارية لتقويض الوحدة الترابية للمملكة، من شأنه أن يشجع دولًا أخرى على تبني الرؤية ذاتها، والاستفادة من آفاق التعاون الاقتصادي والجيوسياسي التي يوفرها تعزيز العلاقات مع المغرب.
يتجلى الدور الإستراتيجي والفاعل للجهاز الدبلوماسي المغربي بشكل واضح في تحقيق هذا الموقف المتقدم من حزب “أومكونتو ويسيزوي”. وارتكز هذا الدور على دبلوماسية استباقية ومكثفة، تمثلت في استقبال جاكوب زوما في الرباط وإجراء مباحثات مباشرة وعميقة مع وزير الخارجية. ويؤكد هذا التواصل قدرة الدبلوماسية المغربية على بناء جسور مع الفاعلين السياسيين الصاعدين في القارة، وتجاوز المواقف التقليدية للحكومات، وصولاً إلى قلب شبكات التأثير السياسية، مع الالتزام بالقوانين والأعراف الدبلوماسية.
من المرجح أن يسهم حزب “أومكونتو ويسيزوي” في تغيير السياسة الجنوب أفريقية تجاه قضية الصحراء في حال صعوده السياسي وتصدره نتائج الانتخابات المقبلة. وتسعى الأحزاب الصاعدة عادة إلى تغيير السياسات التي يتّبعها الحزب الحاكم، وإعادة النظر في المواقف الخارجية جزء من هذا التغيير. فقد يرى الحزب أن دعم بوليساريو لا يخدم المصالح الوطنية لجنوب أفريقيا، وأن إقامة علاقات قوية مع المغرب، كقوة إقليمية في شمال أفريقيا، يمكن أن يجلب منافع اقتصادية وجيوسياسية. ومع تزايد الأصوات المطالبة بإعادة تقييم السياسة الخارجية، فإن صعود الحزب سيمنح زخمًا أكبر لهذه المطالب، وقد يدفع نحو مراجعة شاملة للتحالفات الإقليمية، ما قد يؤدي إلى تقليص الدعم السياسي والعسكري لجبهة بوليساريو.
وعلى هذا الأساس، يمكن تصور عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الموقف الجنوب أفريقي:
السيناريو الأول: تحول إستراتيجي تدريجي، مع تصاعد النفوذ السياسي لحزب “أومكونتو ويسيزوي”، سواء عبر تشكيل تحالفات حكومية أو تزايد تمثيله التشريعي، ومن المرجح أن تشهد بريتوريا تحولاً منهجيًا في سياستها الخارجية تجاه قضية الصحراء المغربية. ويبدأ هذا التحول بتقليص الدعم اللوجستي والسياسي لبوليساريو، ثم الانتقال إلى موقف الحياد الإيجابي، وقد يُتوّج بالاعتراف بمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية على المدى القريب. فهذا المسار هو الأكثر ترجيحًا في حال استمر الزخم السياسي للحزب في أفق الانتخابات المقبلة.
السيناريو الثاني: انقسام داخل المؤسسة التنفيذية، إذ أن دخول “أومكونتو ويسيزوي” في حكومة ائتلافية مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي أو أطراف سياسية أخرى سيُحدث تباينًا بنيويًا داخل الجهاز التنفيذي الجنوب أفريقي. وهذا الانقسام يُضعف قدرة جنوب أفريقيا على صياغة موقف موحد وفاعل حيال النزاع، ما يخدم المصالح المغربية ويُقوّض الأطروحة الانفصالية لبوليساريو.
السيناريو الثالث: استمرار الموقف التقليدي، فتحت ضغط داخلي متنامٍ في حال عدم تمكن “أومكونتو ويسيزوي” من الوصول المباشر إلى السلطة التنفيذية، قد يستمر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في تبني سياسته الحالية. ومع ذلك، فإن وجود كيان سياسي مؤثر بحجم “أومكونتو ويسيزوي” يدعم الوحدة الترابية للمملكة المغربية سيُحدث ضغطًا داخليًا متصاعدًا على الحكومة لإعادة تقييم موقفها. وهذا الضغط قد يُفضي إلى تغييرات جوهرية على المدى المتوسط، مع تركيز متزايد على تعزيز التعاون الاقتصادي كرافعة لتطوير موقف داعم للمغرب.
السيناريو الرابع: تأثير هامشي على المدى القصير، ويشير هذا السيناريو إلى غياب تغيير جذري أو فوري في السياسة الخارجية لجنوب أفريقيا، خاصة إذا ظل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو القوة المهيمنة. ومع ذلك، فإن دعم “أومكونتو ويسيزوي” سيلعب دورًا محوريًا في إطلاق نقاش داخلي عميق حول تداعيات دعم جبهة بوليساريو على مكانة جنوب أفريقيا القارية والدولية. وهذا السيناريو يُعد الأقل ترجيحًا نظرًا للديناميكيات السياسية الجديدة.
تؤكد التطورات الدبلوماسية الأخيرة أن العلاقات بين المغرب وجنوب أفريقيا، على الرغم من التباينات السياسية في فترات سابقة، ترتكز على إرث تاريخي عميق من النضال المشترك ضد الاستعمار والفصل العنصري. فقد كانت المملكة المغربية داعمًا راسخًا لنضال الشعب الجنوب أفريقي ضد نظام الأبارتايد، حيث احتضنت ودرّبت وسلّحت وموّلت حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وزعيمه نيلسون مانديلا في وجدة. هذا الدعم التاريخي يبرهن أن المسار الإستراتيجي للعلاقات الثنائية يتجاوز التقلبات السياسية المؤقتة. ومن هذا المنطلق، يمهد هذا الإرث النضالي المشترك الطريق لمستقبل واعد، تتطلع فيه الرباط وبريتوريا إلى بناء شراكة إستراتيجية قوية تخدم المصالح العليا لشعوب القارة الأفريقية، وتسهم بفاعلية في تحقيق وحدتها واستقرارها، بعيدًا عن أيّ أجندات انفصالية تعيق التقدم والتكامل الإقليمي.