رأي

مجلس الشيوخ المصري… غياب المشاركة وحضور الإكراه

كتب عصام شعبان, في العربي الجديد:

لم تكن انتخابات مجلس الشيوخ المصري، مطلع أغسطس/ آب الحالي، سوى محطة جديدة لتكريس السلطوية، بوصفها خياراً مستمرّاً. ورغم دعوات إلى اصطفاف وطني حاليّاً، أو مبادرات سابقة للحوار بين السلطة وأحزاب المعارضة، فإن مطالبة الأخيرة بالحدّ من عوائق المشاركة السياسية، بما يتيح تمثيلاً سياسياً عادلاً، قوبلت بالتجاهل، في أول اختبار عملي بعد انتخابات الرئاسة، وفي ثاني اقتراع لاختيار أعضاء الغرفة الثانية، بل وضعت السلطة مزيداً من الحواجز التي تضعف فرص الترشح والتنافس. وعلى مستوى آخر، لم تظهر استجابة لمفهوم التشارك بناء على تفاهماتٍ تؤمّن مواقع لبعض الأحزاب المعارضة، وحتى المقاعد التي حصلت عليها ضمن القائمة المطلقة المحسوم فوزها ظلت محدودة، وأقرب إلى تمثيل رمزي، لا يتناسب مع تاريخ بعض هذه القوى، ولا حتى ما تمارسه من أدوار، ومواقف مساندة للنظام في ملفّات عدّة، كما حزبي التجمع الوطني التقدمي الوحدودي والوفد، وكل منهما حصل على مقعدين في القائمة.

وتبدو المفارقة بين شعارات الاصطفاف الوطني والحوار من أجل تعزيز الفاعلية السياسية، وبين واقع الهيمنة المطلقة التي مارستها أحزاب شُكلت برعاية الدولة، وإقصاء لقوى خارجها، الأمر الذي يعني أن محطّة انتخابات مجلس الشيوخ تفارق ما روج عن اعتراف النظام في مصر وسعيه إلى تعزيز الفاعلية السياسية. ولا يختلف واقع ما جرى عن محطّات انتخابية سابقة على الحوار، وكذلك يخالف مشهد الاستحواذ، دعاوى وشعارات حول تجديد تحالف 30 يونيو (2013)، باعتباره إطاراً يجمع أغلب القوى السياسية مع النظام، ويبقى هذه الشعار في أذهان من روّجوه وحسب، من دون وقائع دالّة، وتبقى علاقة القوى السياسية مع النظام فيما تسمّى “جبهة 30 يونيو” علاقة طرف يتمسّك بالتعاون والمساندة والشراكة، وآخر يبقي القطيعة والاستبعاد، ويمنع أن يكون هناك شركاء في المجال العام، بدعوى الجدارة في امتلاكه والسيطرة عليه.

وضمن منطق النظام، فإن كل تمثيل في أي مؤسّسة، حتى وإن كان مجلساً استشاري الطابع، لا بد من أن يحتكره التابعون، الموثوق في ولائهم السياسي، إضافة إلى أن هؤلاء يمثلون طبقة تستفيد من النظام وتسانده، ولا اعتبارات حقيقية لديه حول مفهوم التنوّع أو نموذج التشارك، الذي يقصم من حصّة مؤيدي النظام أولاً، ويتنافى مع هدف الحفاظ على الكتلة الاجتماعية التي تسانده، وقد يفهم أنه تنازل، ما يعدّ خصماً من قوة النظام، وصورته الاعتبارية التي يرسّخها نظاماً قوياً مهيمناً، يفرض وجوده بالجدارة والاستحقاق.

وضعت السلطة مزيداً من الحواجز التي تضعف فرص الترشح والتنافس

وأجريت انتخابات الشيوخ، بإضافة عوائق للمشاركة، لم تكن مجرّد إجراءات تنظيمية، بل أداة لاستدامة مركزية اتخاذ القرار وتدوير الفئات نفسها في مؤسّسات التمثيل، كان ضمنها إصدار تعديلاتٍ على قانون مجلس الشيوخ (141 لسنة 2020) رسّخت نموذج “القائمة المطلقة المغلقة”، مع إعادة ترسيم بعض الدوائر، ورفع رسوم الترشّح والتأمين، ما ساهم في تقليص فرص طرح قوى مستقلة أو معارضة قوائم للمنافسة، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الدعاية بالنسبة لأغلب قوى المعارضة والمستقلين، الذين لا تكفي إمكاناتهم العمل في دوائر متّسعة، تحتاج إلى جانب آلاف الكوادر، تمويلاً ضخماً للدعاية، لن يضاهي أيضاً الرأسمال السياسي لقوى مدعومة من الدولة، وهذا أيضاً خفض عدد المرشّحين إلى النصف، بالمقارنة بالانتخابات السابقة في 2020، ودليل العزوف وأحد أوجه تدنّي المشاركة.

وأظهرت النتائج الأولية ملامح هيمنة شبه مطلقة لرجال النظام وأحزابه، وهي نتيجة متوقّعة لبنية قانونية وأمنية وإدارية صمّمت لضمان احتكار المجال السياسي، فقد خصّصت 75% من مقاعد القائمة المطلقة لثلاثة أحزاب موالية (44 مقعداً لحزب مستقبل وطن، و19 لحماة الوطن، و12 للجبهة الوطنية)، بينما تنافست هذه الأحزاب فيما بينها على المقاعد الفردية. ومع تعيين مائة عضو، تصبح الغرفة الثانية، (300 عضو) بمكانة صوت النظام الحاكم، وتعبيراً عن منطق الاستحواذ السياسي.

يبرز شكلٌ من الإكراه المرتبط بالخدمات الاجتماعية كأدوات ضغط

ويبقى التقدير المبدئي لوجود المعارضة في حدود 10%، بما يظهر مجدّداً إخفاق الرهانات على انفتاحٍ سياسي حقيقي، بعد الحوار الوطني، ويؤكّد محدودية نتائج الحوار في ملف الإصلاح السياسي. ولم تكن انتخابات الشيوخ محطّة لتطبيق الحد الأدنى من التشارك، بحكم أن المجلس محدود الصلاحيات يمكن أن يكون إطاراً للتفاوض وساحة حضورٍ لبعض شخوص المعارضة المقبولة نسبيّاً من أجهزة الدولة، لكن هذا التصوّر لم يتحقق، وهو يغفل دوراً وظيفيّاً للمجلس في مناقشة الرأي وإبدائه، والاقتراح بشأن مشاريع القوانين، والاتفاقيات الدولية، وتعديل الدستور، إضافة الى أدوارٍ غير رسمية يمارسها أعضاؤه في تعزيز قوة السلطة وقبضتها، وبناء شبكة علاقات تساهم في عمليات التحكّم والضبط السياسي والاجتماعي من المستوى المركزي إلى القرى، إضافة إلى بناء شبكة المؤيدين للنظام وترميمها، بجانب دور الوساطة السياسية بين كتل اجتماعية من أصحاب المصالح وأجهزة الدولة، والتي تنتج ريعاً سياسياً، وفرصاً اقتصادية، تدفع عوائدها كتلة من أصحاب النفوذ في التنافس فيما بينهم، وأيضاً ضخ مساهماتٍ مالية طائلة. وبالتالي، التنازل عن أي موقعٍ في مجالس التمثيل من التابعين للسلطة، الموثوق فيهم، لصالح قوى معارضة، يعني خسارة بؤرة للدعاية والحشد، وخسارة أعضائه مكاسبهم.

وفي مشهد الانتخابات، يمكن ملاحظة مستويين أساسيين من الإكراه السياسي: الأول يمارس على المواطنين باستدعائهم للتصويت، والثاني يرتبط بالقوى السياسة، وكلاهما ضمن استراتيجية سلطوية أوسع لضبط المجال العام والتحكّم في الفاعلين ضمنه. وعلى مستوى الجمهور، تتضمّن حملات التعبئة شعارات شعبوية عن الوطنية والاستقرار والتنمية، تجعل التصويت واجباً ومسؤولية ودليلاً على الفاعلية والانتماء. ولا يخلو الأمر من ممارسة ضغط نفسي، يحفّز الأفراد على المشاركة، لأن الصوت أمانة. وبذلك يستدعى المواطن “رقماً” في كشف الناخبين للتصويت. وهنا لا يجري التعاطي مع التصويت بوصفه حقّاً سياسياً يرتكز على الاختيار الحر والتنافس، وإنما واجب، يُفترض تأديته رغم غياب الخيارات، وربما وجد ناخبون كثيرون أنفسهم أمام مرشّحين لا يعرفونهم، وإن انتموا إلى لافتاتٍ حزبية، فإن مؤسّساتهم لا تطرح رؤية واشتباكاً مع الواقع، وأنشطتها أقرب إلى العمل الخيرى ترتبط بموسم الانتخابات، ما يجعل التصويت فعلاً من دون مضمون، يفتقر إلى التبصّر، والمفاضلة بين متنافسين يحملون رؤى مختلفة، كما أنها ليست أداة لاختبار الحكم، بل إلى استدامته، فإنها تتوسّع في استخدام آليات للقهر والضبط.

جرى تهميش السياسة بوصفها فعلاً تنافسياً، واستبدال الإجماع بالتعددية، والاستحواذ بالتشارك، وكان الحسم أقرب إلى التزكية

كما يبرز شكلٌ من الإكراه المرتبط بالخدمات الاجتماعية كأدوات ضغط، وجرى دفع مستفيدين من برامج “تكافل وكرامة” وبعض الجمعيات الأهلية، في عمليات الحشد، إلى جانب توجيه عمّال من بعض الشركات، وتعد نسبة الأصوات الباطلة المرتفعة نسبياً مؤشّراً دالّاً، رغم تفاوت نسب المشاركة. وضمن أسباب تفسيره، دفع بعض الفئات ضمن تعبئة قسرية، وغياب المعرفة بالمرشّحين، أو إبطال الأصوات كآلية احتجاج صامتة. وعلى مستوى القوى السياسية، يتجلّى الإكراه في فرض قواعد انتخابية تعوق الترشّح والمنافسة، أبرزها الإبقاء على نظام القائمة المطلقة، ورفض النسبية، وإعادة تقسيم الدوائر على نحو يضم ملايين الناخبين، ما يصعّب التواصل معهم في حملاتٍ لن تضاهي مثيلتها من أحزابٍ تتكوّن من قياداتٍ أمنية وبيروقراطية ورجال أعمال تكونت وتعمل بمباركة السلطة ودعمها.

ومع تعدّد أشكال الإكراه، على مستوى جمهور الناخبين، والقوى السياسة، كان التصويت منخفضاً، وأقرب إلى عملٍ روتيني وبيروقراطي، تتراجع خلاله عناصر الإقناع والتبصّر، ويحضر فرض الأمر الواقع بالقوة، كما ساهم الوضع الاقتصادي، وسياسات النظام، وبينها اختيار توقيع قانونٍ يقضي بإلغاء قانون الإيجار القديم بالتزامن مع الاقتراع، في جعل فئاتٍ تُحجم عن المشاركة، وتتجاهل الحدث، وقد نشرت بعض البيانات عن التصويت في لجانٍ فرعية تظهر مستوى ضعيفاً من الحضور، بينما كان المشهد أمام اللجان، الذي تبثّه وسائل الإعلام، يتضمّن اصطفاف طوابير على مدار اليوم، يلعب فيها بعضهم دور المصوتين، ويمارس آخرون الدعاية واستقبال آخرين للاصطفاف في الطوابير ساعاتٍ، رغم سير عملية التصويت بهدوء وسلاسة، وتعدّد لجان التصويت داخل كل مقر انتخابي، ما يمنع التكدّس.

وإجمالاً جرى تهميش السياسة بوصفها فعلاً تنافسياً، واستبدال الإجماع بالتعددية، والاستحواذ بالتشارك، وكان الحسم أقرب إلى التزكية، في تعبير عن بقاء احتكار المجال العام، ومنع حيازة أي مواقع في الهياكل السياسية لغير التابعين للنظام، بما يحفظ نفوذهم، وتبقى مساحة التغيير قاصرة على إعادة إنتاج نخبه وتجديدها بمعزلٍ عن الجمهور، فالنظام ينتخب مؤيديه، ويهندس المشهد السياسي، بما يحقّق هيمنة مطلقة، ويحقّق استقراراً خادعاً. ويبقى القول إن المراهنة على هذا النموذج ضمن سردية الاستقرار، لن تحقّق التنمية، وستتفاقم المشكلات، والحاجة للاعتراف والتمثيل لا يمكن نفيها، كما أن الانفراد بمؤسّسات الحكم واستبعاد فئات المجتمع من المشاركة في اتخاذ القرار لا يمكن أن يكون نموذجاً يُكتب له النجاح.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى