رأي

مراجعات ما بعد الانتخابات التركية

كتب د. محمد السعيد إدريس, في “الخليج” :

من المؤكد أن تستمر «صدمة» نتائج الانتخابات المحلية التي أجريت في تركيا، أواخر الشهر الماضي، سواء على مستوى الخاسرين وعلى رأسهم حزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة الرئيس رجب طيب إردوغان، وحزب «الجيد» القومي برئاسة ميرال أكشنار الذي تراجعت أصواته إلى 3,8 % الذي بدأ يشهد سلسلة من الاستقالات شملت مرشح الحزب في إسطنبول، ونائب رئيس الحزب، وربما يمتد الأمر إلى اكشنار نفسها، أو على مستوى الفائزين، وعلى الأخص حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، وحزب «الرفاه الجديد» بزعامة فاتح أربكان نجل نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا الأسبق، ومؤسس حزب «الرفاه» الإسلامي.

فوفقاً للنتائج النهائية للانتخابات التي حققت إقبالاً كبيراً من الناخبين (78,5%) فاز حزب الشعب الجمهوري بنسبة 37,7% من الأصوات، في حين تراجعت أصوات حزب العدالة والتنمية الحاكم ليحل ثانياً بنسبة 35,5% كما فازت المعارضة بأغلب البلديات الكبرى، بخاصة في إسطنبول وأنقرة أزمير، التي خسرها حزب العدالة والتنمية للمرة الثانية، على التوالي، في انتخابات 2019 وانتخابات 2024، وعلى الرغم من عدم تكافؤ قواعد اللعبة «استطاع حزب الشعب الجمهوري تحقيق انتصار مدوّ، هو الأكبر له منذ 47 عاماً.

في الوقت نفسه، ظهر قطب جديد آخر في المعارضة إسلامي النزعة، قادر على طرح خطاب سياسي منافس لحزب العدالة والتنمية هو «حزب الرفاه الجديد» الذي يحرص على استعادة زهو «حزب الرفاه» السابق الذي أسّسه نجم الدين أربكان، وخرج رجب طيب أردوغان وحزبه من عباءته. فقد استطاع «حزب الرفاه الجديد» الظهور في هذه الانتخابات كتشكيل إسلامي استطاع أن يفرض نفسه قوة سياسية ثالثة، بعد الحزبين الكبيرين، بعد أن طرح خطاباً سياسياً معارضاً لخطاب حزب العدالة والتنمية إزاء العلاقات التركية – الإسرائيلية.

وهكذا نستطيع أن نقول إن هذه الانتخابات قد أظهرت تحديات مستقبلية ضخمة للرئيس إردوغان، وحزبه، فضلاً عن خسارة الانتخابات المحلية، وفوز المعارضة بأغلب، وأهم المناصب، ومن أبرز هذه التحديات أنه، وفي الوقت الذي أخذ فيه نجم أردوغان في الأفول أخذ يصعد في الآفاق السياسية التركية نجمان بارزان، أحدهما علماني معتدل هو أكرم إمام أوغلو الذي فاز للمرة الثانية، وعلى التوالي، بمنصب رئيس بلدية إسطنبول، والآخر إسلامي معتدل هو فاتح أربكان الذي يباركه عبد الحميد فاي، حفيد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

كيف سيكون في مقدور الرئيس إردوغان مواجهة هذا التحدي، في وقت تترسخ فيه مقولة إن من يرأس بلدية إسطنبول هو مرشح محتمل، إن لم يكن مؤكداً، لرئاسة الجمهورية التي من المقرر إجراؤها عام 2028؟

وفي وقت يؤكد فيه «أوزغور أوزيل» الرئيس الجديد لحزب الشعب الجمهوري بعد إطاحة رئيسه السابق كمال كليتشدار أوغلو، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن «الناخبين اختاروا تغيير وجه تركيا» بعد 22 عاماً من هيمنة «حزب العدالة والتنمية»، مضيفاً أن «الناخبين أرادوا فتح الباب أمام مناخ سياسي جديد في بلادنا».

اللافت في هذه التطورات أن الرئيس أردوغان، رغم إدراكه لفارق التصويت الهائل بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أجريت في مايو/ أيار، من العام الماضي، وفاز بها الرئيس أردوغان، وبين الانتخابات البلدية الأخيرة التي أجريت بعد نحو عشرة أشهر فقط، من انتخابات العام الماضي، لم يشغل نفسه بالإجابة عن السؤال المحوري، وهو: هل ما زال الشعب التركي مأخوذاً بزعامته، أم أن دعوة التغيير السياسي باتت عامة، وأن حزب العدالة والتنمية الذي تجاوزته الإرادة الشعبية في الانتخابات البلدية الأخيرة، لم يعد ملهماً لهذه الإرادة الشعبية، وأن الأزمة ليست في أشخاص مرشحي الحزب غير الأكفاء والبيروقراطيين، بل الأزمة في تراجع مصداقية الخطاب السياسي للحزب، وللرئيس، وقناعة قطاعات شعبية واسعة أن الأزمة باتت متجذرة في الخطاب السياسي، وربما المشروع السياسي للرئيس وللحزب، وأن التغيير هو مطلب المستقبل؟

أردوغان أصدر تعليماته الصارمة بتشكيل مجموعات عمل للتحقق من أسباب الخسارة، وإعداد تقرير عن أسباب هذه الخسارة، وتقديمه إليه بأسرع وقت.

اللافت أكثر، أن أردوغان يجدد الدعوة إلى إعداد «دستور جديد» للبلاد بعد أيام من خسارة حزبه غير المسبوقة، تحت دعوى أن تركيا باتت متشوقة لدستور جديد «مدني ديمقراطي»، حسب ما سبق أن أعلن رئيس البرلمان نعمان كورتولموش بأن «البرلمان ملزم في دورته الحالية بصياغة دستور جديد ديمقراطي شامل»، وفي إفطار رمضاني أضاف «هناك فرصة في هذا البرلمان لوضع دستور تشاركي قوي، دستور يشبه دستور عام 1921، ينهي الدستور الحالي الذي يحمل البصمات المظلمة لحقبة انقلاب 1980».

ترويج لبرلمان جديد تحت دعاوى الديمقراطية والليبرالية والتشاركية، في وقت أضحى القطاع الأغلب من الشعب التركي يدرك أن الدافع الحقيقي هو تخليق فرصة جديدة لأردوغان كي يجدد ترشحه عام 2028.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى