كتبت ربي عياش في صحيفة العرب.
الواقع الحالي يثير قلقًا عميقًا بشأن مستقبل الأجيال القادمة بسبب التنكيل العميق الذي ضرب البنية الفكرية.
إن خلق الفوضى وتعزيزها لا يتمان بشكل عشوائي، إنما فن صناعة الفوضى يتجلى في الآتي: تبدأ بتدمير البنية الاقتصادية بالتوازي مع تدمير ممنهج للبنية الفكرية والقيمية. يبدأ هذا التدمير من ضرب القطاع التعليمي، وهو الركيزة الأساسية لبناء الأجيال. فعندما يتم تكفير الفكر النقدي والتحليلي، ومنع العقول من التفكير الحر، ووأد الأسئلة وحرية الفكر والرأي والتعبير في الدين والسياسة والفلسفة والثقافة، يصبح الجهل سائدًا بين الأفراد، الذين يعتمدون على المسلمات والغيبيات، ويكتفون باستقصاء المعلومات من مصادر أحادية.
هذه العملية الممنهجة حين تتم على مدار أجيال تسهم في تعزيز الفوضى والغوغائية، ما يؤدي إلى تدمير شامل للدول ومآسٍ ممتدة في المجتمعات. في هذا السياق، نجد أن الجوع والفقر يضربان أعمق جذور الاستقرار الاجتماعي. فصعوبة تلبية الاحتياجات الأساسية تُحدث تغييرات في سلوك الأفراد، ربما هذه التغيرات تخلق بيئة خصبة للفتنة وزعزعة السلم والأمن، حيث تنتشر السرقة والفساد كنتائج طبيعية لانعدام الأمان.
في مثل هذه الظروف قد يتغير ولاء الأفراد ليغدو للجهات الخارجية أو للأيديولوجيات المتطرفة، وهو ما يؤدي إلى شرذمة الدول وضياع سيادتها. هذا المشهد يتجلى بوضوح في دول مثل سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، حيث أصبحت هذه الدول تعاني من أزمة عميقة في هيكلتها، ومحاولات دائمة لضرب بنيتها الفكرية والقيمية، لتصبح رهينة لقرارات ليست بيدها لاحقًا.
إن التحديات الاقتصادية تعد عاملًا مهمًا لإحداث اختلال في توازن المجتمعات، وعدم توفير الأساسيات للأفراد -المسكن والغذاء والمياه النظيفة والبنية التحتية والتعليم والبنية الصحية والخدمات- يمثل بابًا واسعًا للاستثمار في الفوضى والرعب والإرهاب لاحقًا.
ثم إن العمل على تطوير البنية الفكرية الثقافية التعليمية الأخلاقية للمجتمع ليس أمرًا ثانويًا، إنما هو أمر أساسي لبناء مجتمعات متوازنة طبيعية. كما قالت ألكسندرا تولستايا “انخفاض مستوى الأخلاق العامة يجعل الأجزاء غير الأخلاقية في المجتمع تطفو على السطح، لتشكل رأيًا عامًا منحرفًا يبرر الجرائم بل ويقبلها.” هذا الاقتباس يلخص المأساة التي تواجهها المجتمعات، حيث تصبح الجرائم وانتشار الأسلحة بين العامة والخارجين عن القانون والممارسات اللاأخلاقية مقبولة اجتماعيًا في ظل انهيار القيم الأخلاقية.
عدم توفير الأساسيات للأفراد -المسكن والغذاء والمياه النظيفة والبنية التحتية والتعليم والبنية الصحية والخدمات- يمثل بابًا واسعًا للاستثمار في الفوضى والرعب والإرهاب لاحقًا
ما يفتح المجال لخلق دويلات داخل الدول، وظهور جماعات مسلحة لا تحترم سيادة الدول أو قوانينها، مما يهدد الأمن المجتمعي. يصبح ولاء كل فئة لدويلاتها بدلًا من سيادة الدولة الحاكمة، ومن هنا يتشوه مفهوم الوطنية، ويصبح الوطن الذي يدافع عنه كل فرد مختلفًا عن وطن الآخر.
ربما يصبح الوطن هو الولاء للنفس، للمصلحة الخاصة، ومصلحة الجماعة المحدودة، بدلًا من التفكير في المصلحة العامة. وهذا يقودنا إلى تشوه في المفاهيم الاجتماعية، وأخلاقيات المجتمع. ومع عدم وجود اتفاق ضمني جمعي بين الأفراد عليها، تنشب التفرقة والشروخ والفجوات، وتبدأ الأطراف تعادي بعضها البعض، تتضارب فيما بينها في حرب السلطة وصراع البقاء.
فيصبح أفراد مكونات الوطن الواحد أعداء. كل يقاتل في جبهاته بحسب فكره ومصلحته ورؤيته الخاصة، دون الأخذ بعين الاعتبار مصلحة الآخر الذي يشاركه هذا الوطن. وبذلك تختلف الأطراف على كل شيء فيما بينها وتتفق على دمار بلادها.
لكن لا يمكن إضفاء الشرعية على الغوغائية والفوضى واعتبارهما عملًا وطنيًا. ولا يمكن إضفاء الشرعية على الولاء لجهات خارجية واعتباره عملًا وطنيًا. فالوطنية تنطلق من احترام سيادة الوطن والانتماء إليه؛ أي الحفاظ على الممتلكات العامة، والحفاظ على الشوارع آمنة ونظيفة، وتعزيز جمال الوطن، والاحتفاء بطبيعته، وتمييز المواطن بين واجباته وحقوقه، ومساحته الخاصة وحدوده، والوطنية أيضا هي العمل على تطوير البلاد بمحاربة الفساد، وباحترام حريات وحقوق كافة الأفراد في الوطن، على اختلاف أجناسهم وأفكارهم وإيمانياتهم وعقائدهم وإثنياتهم.
أما كل ما هو خارج عن احترام الإنسان وعن إطار المصلحة العامة ومظاهر الحضارة فلا يُوضع في إطار الوطنية. فالأوطان تُبنى بالاحترام والأخلاقيات والقيم الإنسانية.. عدا ذلك يجلب خرابًا ودمارًا. الأوطان وُجدت لتحتوي جميع مكوناتها وأفرادها وتؤمن لهم حياة كريمة، لا أن يبقى الإنسان في العراء، ولا أن يعيش فوق ركام مأساته وما يقاسيه.
لا يمكن إضفاء الشرعية على الغوغائية والفوضى واعتبارهما عملًا وطنيًا. ولا يمكن إضفاء الشرعية على الولاء لجهات خارجية واعتباره عملًا وطنيًا
عند تأمل الوضع الراهن، يبدو أن المدرسة الفكرية الميكيافيلية، التي تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، قد وجدت تطبيقًا واسعًا في المجتمعات الحديثة. يبدو أن المدرسة الميكافيلية ناجحة وروادها كُثر سواء من الأفراد والأحزاب أو الحكومات. هذه الفلسفة التي تركز على تحقيق الأهداف بأي وسيلة متاحة، أصبحت النموذج الشائع في التعامل مع الأزمات، وهو ما أدى إلى تعزيز الممارسات القمعية والتلاعب بالقيم لتحقيق المصالح الفردية والحزبية.
لكن المجتمعات التي تطمح لتحقيق الحرية والعدالة ومكافحة الرعب والفوضى لا يمكنها أن تعتمد على هذه الميكيافيلية. على العكس، يجب أن تكون الحرية والعدالة نابعة من ممارسات يومية حقيقية في الحياة الاجتماعية، واحترام لكينونة الإنسان ووجوده، وإلا ما فائدة كل هذه القيم المشوهة إن لم تستطع الحفاظ على شارع واحد آمن.
لكن ربما الشعوب التي لم تخرج مفاهيم كالعدالة والديمقراطية والحريات من رحم تجربتها الخاصة، ولا تمارسها في معاملاتها اليومية الداخلية، تجد صعوبة في تحقيق هذه القيم، وربما من الصعب عليها الانعتاق من الهيمنة الخارجية.
إذًا، هكذا تضيع الأوطان، مع انتشار الفساد وانهيار المنظومة الاقتصادية وغياب المصلحة العامة وانعدام مشروع وطني جامع، ومع وجود خلل عميق في بنية القيم الأخلاقية والفكرية يسهل على القوى الخارجية الاستثمار في الفوضى، وفي شرذمة الأطراف واستخدامها كأدوات لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية.
برأيي، هكذا تم تقسيم سوريا ولبنان والعراق، وهكذا تمت تصفية القضية الفلسطينية. هكذا تم الاستثمار في الفوضى والرعب في الشرق الأوسط، وتم زرع داعش والقاعدة في المنطقة خلال العقود الأخيرة، ليكون الرابح الأكبر من كل ما حدث الولايات المتحدة وإسرائيل.
الواقع مظلم والمستقبل مجهول. الواقع الحالي يثير قلقًا عميقًا بشأن مستقبل الأجيال القادمة، بسبب التنكيل العميق الذي ضرب البنية الفكرية، ودعاة الرعب الذين تم الاستثمار بهم من قبل مخابرات دولية لتعزيز الفوضى في المنطقة، ولتحقيق مصالح سياسية واقتصادية لأطراف دولية عدة. الملايين من الناس يدفعون وسيدفعون ثمن هذا الخراب من حياتهم ومواردهم واستقرارهم.
سيجد الأفراد أنفسهم يسيرون في طرقات غير معبدة، بخطوات ثقيلة، وبصيرة معطوبة، في صورة مشوشة لمستقبل مجهول، ما لم نتخذ خطوات جادة لإعادة بناء القيم الإنسانية والأسس الأخلاقية التي تُعد الضامن الوحيد لنهضة المجتمعات.