من معه يعطى، ومن ليس معه يؤخذ منه
كتب محمد ياسر الصبان ل “رأي سياسي” المقال التالي:
“سألني صديقي: ألست مسلماً؟
فأجبته: نعم والحمد لله.
فسأل: لماذا إذاً تذكر السيد المسيح عليه السلام في معظم كلامك وتدافع عن المسيحيين كأنك منهم؟
فقلت له: “إنني مسلم بالولادة والحمد لله، ولكن السيد المسيح عليه السلام يسكن قلبي ووجداني وفكري، وهو الذي هداني لدراسة علم الاقتصاد والسياسة في الرسالة الإسلامية الخاتمة وهو الذي جعلني مسلماً مستسلماً للعلم المتطور الكامن فيها في السياسة والاقتصاد المقترن بالميزان والقياس وليس بالتحليل أو العاطفة. فقد عشت طفولتي في منطقة “عين الرمانة” ذات الأغلبية المسيحية، وتعلمت في الابتدائي والمتوسط في مدرسة إدارتها مسيحية ولم يفرضوا علي درس دينهم لذلك كنت استرق السمع قليلاً خلال درس الدين، إلا أنني كنت أختلف معهم في محبتي الجارفة للرئيس جمال عبد الناصر، ومحبتهم الجارفة للرئيس كميل شمعون. وكنت مأخوذاً بفكرة العدالة التي كانت شعار المذهب الاشتراكي الذي انتميت اليه بالعاطفة ولم أنقده بالعقل.
ولكني في يوم من أيام سنة 1985 تعرضت لموقف مخزٍ لكرامتي وكرامة من حولي وجبنت عن مواجهة غير محمودة النتائج، وتفاجأت بكلمة للسيد المسيح عليه السلام تدور في ذهني ولا تفارقني، تارة تخفف من ألم كرامتي المهدورة وتارة تحملني مسؤولية عدم السماح لأبنائي وعائلتي وإخوتي في الوطن والانسانية وقوف نفس الموقف المخزي للكرامة.
فقد كان الهاتف في سنة 1985 كله ثابت، وكان على المواطن أن يدفع رشوة للحصول على خط الاشتراك الذي كان له قيمة مادية ومعنوية كبيرة يومها، لذلك كان الناس يتهافتون على شباك دفع فواتير الهاتف حتى لا تقطعه المؤسسة ويتعرض المواطن لدفع غرامة. وبغياب التسديد الإلكتروني كان دفع الفاتورة يعني الوقوف لساعة او أكثر شهرياً على شباك موظف القبض. وبالطبع فإن هذا الموظف إمتلك سلطة تسهيل الدفع للمحظيين، فكان الناس يتدافعون على الشباك الخارجي، والمحظيين يدخلون من الباب الخلفي ليدفعوا بدون تأخير. إلا أن رجلاً كبير السن تأخر وقوفه على الشباك الخارجي بينما المحظيين يدخلون ويخرجون بسرعة من الباب الخلفي أمام عينيه، فثار كبير السن وارتفع صوته معترضاً على هذا الفساد والتمييز في المعاملة، وفجأة إرتفع صوت موظف القبض شاتماً لكبير السن لأنه اعترض، ثم شملت الشتيمة كل منتظري دورهم للدفع وكنت أنا — الإشتراكي المدافع عن المؤسسات العامة — بين الحشد الذي تعرض للشتيمة التي ختمها الموظف بقوله: (اللي ما بيقدر يسد بوزو وينطر هو وساكت ينقبر يرجع عابيتو) ، وانتظرت أن يعترض أحد من الحشد على هذا الكلام، إلا أنه تبيّن أن الحشد كله من المواطنين المساكين الذين لا يعرفون كيف يدبرون أمرهم ويدفعوا فواتيرهم من الباب الخلفي، فسكت الجمع الغفير وأنا بينهم، (لساني معقود وقلبي وعقلي وكرامتي بركان يبحث عن منفذ لينفجر) ، ومع ذلك انتظرت ذليلاً لأدفع الفاتورة.
وبخروجي حزيناً مقهوراً من دائرة الهاتف تملك فؤادي قول السيد المسيح عليه السلام حول الخادم الفاسد ووجوب معاقبته مادياً. والخادم الجيد ووجوب مكافأته مادياً. فجأة وخلال دقائق معدودة تحول ما كنت أعتقده أفيوناً للشعوب الى علم متطور في إصلاح الإدارة يعيد لي كرامتي كإنسان، وبات ما كنت أعتقده حتمية تاريخية تخلف وفساد يجب اجتثاثه. فإذا كان موظف قبض صغير في دائرة خدماتية بسيطة يستطيع أن يهين المواطن ويولد لنفسه قوة مجاملة المحظيين والإساءة للمساكين، فكيف برئيس دائرة او مدير وزارة أو ضابط أمن أو قاضٍ أو وزير أو رئيس جمهورية؟
كيف يمكن ان يتصرف مع المواطن المسكين من سمحت له مهمته بصلاحيات وحصانات وقدرات مادية ومعنوية وتحوّل من خادم للمواطن الى سلطان عليه؟ وهل يُلام هذا السلطان إذا أفسدته السلطة والحصانة؟ وهل يؤتمن هذا السلطان الذي أفسدته السلطة والحصانة والصلاحيات على توليد مؤسسات خدماتية لتوفير النظافة والماء والكهرباء والإتصالات؟ هل يؤتمن على تحقيق العدالة والامن وحقوق الإنسان وكرامته؟
واحد فقط بين كل البشر تجرأ على القيصر وقال بوجوب مكافأته أو معاقبته مادياً على نتائج أعماله. وكان لا بد لي أن أعيد قراءة حياة السيد المسيح بدقة وبشكل بعيد عن اللاهوت أو أخلاقيات الوصايا العشر. لا بد لعقلي أن يدرك لماذا كانت المكافأة للخادم الجيد والعقاب للبليد مادية، ولماذا اعتبر أن الإشراك بعبادة الله يكمن في المال حصراً؟؟؟ وما هو السر الذي يكمن في المال ليكون جزء منه صناعة البشر وجزء منه من عند الله؟؟؟
أسئلة كثيرة بدأت تدور في ذهني بعد قراءة العهد الجديد في الإنجيل، منها مسألة المال ومكوناته ودورته في جسم المجتمع، ومنها مسألة ضرب المثل بفساد الجباة والعشارين والتحريض على عدم دفع الضريبة والإتاوات. ومنها مسألة الراعي الصالح والحاكم الخادم. ومنها أنه سامح على كافة أخطاء البشر مهما كانت كبيرة فيما عدا مسألة تجارة المال والربا ومقاتلته تجار المال في الهيكل. وكان أهم المهم عندي هو كيفية قياس إنتاج الحاكم الخادم لمكافأته او معاقبته. وسبحان الله فقد حدث في خضم هذه التساؤلات سنة 1985 بدء تسرب النعمة والبركة من الليرة اللبنانية بحيث بدأت تتراجع قيمة المدخرات والرواتب وفقدت الليرة اللبنانية كل مخزونها من الخير والبركة وقفز سعر الدولار من ليرتين ونصف الى ألفين وخمسماية ليرة، دون ان يسأل أحد من أساتذة السياسة أو الاقتصاد عن تسرب النعمة من النقود دون أن تنقص كمية النقود ودون ان ينقص مخزون الذهب في البنك المركزي، وكان كل ما تفتقت به ذهنية الأساتذة هو أن هذا إسمه “التضخم المالي” أما كيف تتسرب النعم والخيرات من النقود وهل تختفي في الهواء أم ان هناك من يستولي عليها ويسرقها بالخفاء، وكيف؟ وهل يجب السكوت عن هذا العدوان الخفي وسطوه على النعم والخيرات التي تختزنها النقود، فهذا ما لم يلتفت اليه أحد ولم يسعى أحد لدراسته والبحث في كيفية استخدام أعداء السيد المسيح (المرابين) لهذا السلاح الجبار واستعباد البشرية بواسطته، او بكيفية القدرة على فرض ضريبة مخفية بواسطة ضخ النقود وإمكانية استخدام نفس الحركة بشكل علمي لإخراج البشرية من نظام الجباية المتخلف الفاسد، ولتوليد وسيلة قياس إنتاج الساسة الذين وظفهم الشعب لرعاية أمنه وحماية مصالحه، ومكافأتهم او معاقبتهم على حسب النجاح او الفشل، كما لم يفكر أحد ببحث وإكتشاف هذا السلاح الجديد الذي كشفته أزمة انهيار سعر صرف العملة الوطنية والذي يمكننا من توليد حضارة انسانية جديدة تملأها المحبة والسعادة والأمان والرحمة.
فهذا ما لم يفكر به أحد وهو ما لم أجده إلا عندما إنتقلت من بحث تحريم التضخم المالي (ربا المال) الى وجوب توليد المال المحصن من التضخم وتسرب النعم من أوعيته (زكاة المال) فقادني العلم المتطور عند السيد المسيح عليه السلام الى دراسة العلم المتطور في القرآن الكريم ووجدت أنهما من نبع واحد وهدفه واحد وهو تحرير الإنسانية من العبودية لغير الله، وبالغوص أكثر في دراسة مكونات المال كمادة اكتشفت أن هناك من يستعبد البشرية بالنظام النقدي التضخمي (الربوي) ويسرق كل الخيرات التي أنعم بها الرحمن على البشر، ويعلن دون مواربة أنه صلب سيدنا المسيح وسمم سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام.
لذلك يا صديقي الغالي فإنني منذ ذلك الوقت حتى اليوم وحتى يسترد الرحمن الرحيم أمانته، أدرس وأعمل لنفس وصفة المحبة التي ملأ قلبي بها السيد المسيح والتي هي نفس وصفة الخروج من الإشراك بالله بالعبودية للمال وملوكه وزبانيتهم الذين استغلوا جهل العامة وحرفوا الرسالات عن هدفها الأساسي وهو أمن وسعادة الإنسان الذي وضع الله ثقته به وأعطاه من الخيرات والنعم ما لا يحصى، ولكن الناس بإبتعادهم عن تدبر الرسالات السماوية تحولوا الى عبيد عند ملوك المال ومدراء البنوك، إضافة الى ملوك السياسة ومدراء الإدارات الرسمية.