كتب سركيس نعوم في صحيفة :النهار” المقال التالي: الثورة الشعبية الإصلاحية السورية التي بدأت عام 2011، والحرب الأهلية التي أعقبتها ثم الحرب بين سوريا الدولة والتنظيمات الإسلامية التي يصنّفها العالم إرهابية انتهت كلها قبل سنوات قليلة. لكن السلم لم يعقبها لأن الوحدة الجغرافية للبلاد لم تعد، ولأن الأرض الكاملة لم تُستعد كلها، ولأن التنظيمات المُشار إليها لا تزال موجودة في شمال البلاد. وهي تدير المناطق الواقعة تحت سيطرتها بإشراف مباشر من تركيا التي تمارس السلطة الفعلية فيها، ولأن التنظيمات الكردية المسلّحة السورية والتركية العاملة معاً في مناطق معيّنة بحماية من قوات عسكرية أميركية تتمركز في المناطق الزراعية الخصبة والنفط كما في المناطق المحاذية للعراق أو القريبة منه. السلم لم يعقب كل المذكور أعلاه بعد لأن اتفاقاً على تسوية سياسية تُنهي الأزمة السورية بكل تشعباتها لم يرَ النور بعد بسبب الإختلاف الواضح بين الولايات المتحدة المتمسكة بقرار مجلس الأمن 2254 ومفاوضات جنيف مدخلاً للحل والتسوية، وروسيا التي تعتبر اجتماعات أستانا والإتفاقات التي نتجت عنها هي الحل. ثم أتت الحرب الروسية على أوكرانيا لتعطّل مساعي الحلول جرّاء انشغال المجتمع الدولي بها، وجرّاء عدم القدرة على تجاوز الدور الإيراني في سوريا بعدما ازدادت الحاجة إليه نتيجة الإنشغال الروسي العسكري والإقتصادي والنفطي والسياسي والاستراتيجي المعروف.
كيف تستطيع واشنطن المساعدة الآن ليس في تسوية قضية سوريا نهائياً بل في تخفيف أزمة الوقود المتعاظمة فيها؟ يُجيب باحثان بارزان في مركز أبحاث أميركي مهم أن شرط المساعدة هو موافقة دمشق وموسكو على عبور المساعدات الى سوريا ومتابعة التقدم في اتجاه تسوية سياسية نهائية لقضيتها. من دون ذلك سيستمر الوضع الصعب فيها. ففي الرابع من كانون الثاني الجاري أطلقت قوات الأمن السورية النار على مئتي محتج على النقص في الطاقة والوقود وعلى ارتفاع الأسعار كانوا يتظاهرون في السويداء. وقد ردّ هؤلاء ومناصروهم بطرد الدورية الروسية – السورية التي أُرسِلت لإعادة الهدوء الى المنطقة. لكنها عادت بعد ثمانية أيام لمواجهة استمرار الإحتجاجات. وليس واضحاً بدقة سبب نقص الطاقة والوقود. لكن لمجرد حصولها في بداية موسم البرد والأمطار وربما الثلوج عنى للسوريين أن الشتاء الحالي قد يكون الأقسى. هذه العوامل الملحّة تظهر حاجة أميركا الى العمل مع حلفائها لوضع خطة تخفّف عذاب المدنيين السوريين والمصاعب الإقتصادية بهدف الحصول على تنازلات في مفاوضات هدفها التوصل الى تسوية سياسية نهائية بموجب قرار مجلس الأمن 2254. نتيجة للتظاهرات المذكورة واصطدامها بالقوى الأمنية استُدعي حاكم السويداء الى دمشق بعد طرد الدورية النظامية المشتركة منها، وقرّر الرئيس بشار الأسد نقل الملف الأمني للمنطقة من المخابرات العسكرية الى مدير المخابرات العامة حسام لوقا، وطلب منه العمل لإزالة أسباب الإحتجاجات وأبرزها نقص المحروقات وارتفاع أسعار سلع حيوية كثيرة. أما مسؤولية سوء الأوضاع فيمكن تحميلها ليس للمشاكل الإقتصادية في البلاد فقط بل للفساد ولنقص عملية إعادة البناء بعد الحرب أو بالأحرى لعدم بدئها. لكن إزالة السلطة السورية لاحقاً الدعم لسلع كثيرة ألحق ضرراً كبيراً بغالبية الشعب، علماً أنه كان أداةً أساسية للمحافظة على الولاء الشعبي للنظام.
هل من أسباب أخرى لقسوة الوضع الحالي السوري؟ يجيب الباحثان إياهما بالقول إن قسوة الوضع ترتبط بقرارات سلبية عدّة اتخذها لاعبون إقليميون رئيسيون. ففي الثاني من كانون الأول الماضي أعلنت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك أن إيران أوقفت شحن النفط الى سوريا بدءاً من أيلول. وفي تشرين الثاني قالت مصادر إيرانية لجريدة “الوطن” اليومية الموالية للنظام إن تسليم إيران شحنات الوقود الى سوريا سيرتفع من مليونين الى ثلاثة ملايين برميل شهرياً. وتشير التقارير الى أن ناقلات النفط الإيرانية لا تزال تصل الى المرافئ السورية. في كل الأحوال كانت هذه المساعدة تضميداً لجرح أو جروح أكثر مما كانت معالجة جدّية لنقص المواد الحيوية.
ماذا يمكن أن تفعل الولايات المتحدة على هذا الصعيد؟ أطلقت أحداث السويداء الأخيرة مناقضات داخل دوائر معنية في واشنطن طالب البعض فيها بتعليق فوري للعقوبات على سوريا والبعض الآخر بفرض عقوبات أشد عليها لتسريع انهيار النظام فيها. المقاربتان غير واقعيتين. ففقدان المواد الحيوية والمشكلات الإقتصادية سببها الدمار الذي نتج عن الحرب وليس العقوبات المفروضة على سوريا، خصوصاً أنها لا تستهدف استيراد المنتجات النفطية. وأي تظاهر جرّاء النقص المشار إليه أعلاه لن يُسقط نظام الأسد المقرِّر من زمان إطلاق النار وبكثافة على المتظاهرين والمعارضين. ومعالجة مجلس الأمن لهذا الموضوع سواء حيث يسيطر الأسد وجيشه أو حيث تسيطر تركيا أو أميركا وأكرادها التي بحث فيها مجلس الأمن الشهر الماضي فقد مُنيت بالفشل. على واشنطن مساعدة السوريين على تخفيف مصاعبهم لكن من دون أن يقوّي ذلك النظام القائم فيها. وإحدى الوسائل الممكنة هي اعتماد واشنطن في مساعدة سوريا الصيغة التي استعملتها لمساعدة إيران في خريف 2020، وكانت إعلانها أن الحكومات الأجنبية والمؤسسات المالية تستطيع وضع آلية تصدير إنسانية شرعية لها من دون نقل مبالغ مالية للنظام. ولتجنّب تأثر المدنيين فإن العقوبات الأميركية لم تستهدف أبداً إستيراد المنتجات النفطية رغم أن بعضها ناتج من قانون “قيصر”، فضلاً عن أن واشنطن أبدت استعدادها لتنفيذ إعفاءات عقابية لعدد محدّد من أنواع الطاقة. في النهاية إذا سهّلت واشنطن شحنات وقود طارئة لسوريا فيجب ألّا يفسح ذلك في المجال أمام التطبيع مع نظام الأسد، وتخفيف أزمة الطاقة في سوريا يتوقّف على عودة الأسد الى طاولة المفاوضات.
الآراء الموجودة في هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها.