أبرزرأي

عروبة كروية وجغرافيا الانتماء الرياضية

كتب المهدي مبروك في “العربي الجديد”: تصنع متعة كرة القدم وأجواؤها، في أحيان كثيرة، البهجة على المدرجات ومحيط الملاعب وهوامشها وليس في الملعب ذاته. تتيح لنا كرة القدم أن نشهد العالم في الملعب على حد عبارة كريستيان برومبرغر، أحد مختصّي سوسيولوجيا كرة القدم الفرنسيين. الملابس والأهازيج والمحظورات وأشكال الممانعة لها، فضلاً عن طقوس الفرح والحزن ونسق نبض القلب وخفقانه، هي أكثر متعة من كل الرسوم التكتيكية وجدارة اللعب. ينافس سحر الجماهير سحر اللاعبين، وهو الذي ينتج معنى ثقافياً ونفسياً للعبة. لذلك لا معنى للعبة من دون تلك الجماهير التي تتابعها، وتمنحها معنىً تولده من ماض سحيق ومن سياقات  الحاضر الراهن بكل تعقيداته. ها نحن نتوهم، والأوهام أكثر بأساً من الحقائق في كرة القدم، أننا سنثأر من “عدونا”، حين نلحق به الهزيمة المرّة. نمنّي النفس أن تنتصر تونس مثلاً على محتلّها السابق فرنسا، ونحلم أن تفوز السعودية أو المغرب بكأس العالم ثأراً للعرب جميعاً.. إلخ.
تختزل كرة القدم أمنيات الشعوب وأحلامها العديدة المبدّدة: لا يختلف المجد الكروي أو الثأر الكروي في منافسة الكبار عن أي إنجاز تقني أو علمي يحققه هؤلاء. ثمّة كبارٌ في الاقتصاد كما ثمّة كبار في كرة القدم. نريد بالكرة وفي الكرة أن ندخل، نحن العرب، هذا النادي الكروي (نادي الكبار) الذي احتكروه، وأوصدوا بابه علينا. لم يتجاوز العرب، فيما أذكر، الدور ربع النهائي، لذلك سيكون تجاوز هذه العتبة فتحاً مبيناً.

لا يمكن أن تكون الرياضة خالية من السياسة بهذا المعنى الشعبي طبعاً. نريد نحن العرب أن نسجل انتصارات كروية تنسينا بعض خيباتنا وإخفاقاتنا المزمنة. بقطع النظر عن وزن هذا النصر المبين أو ضآلته، نحن نعيشه كهوس يستبدّ بنا كل أربع سنوات. مع انعقاد كأس العالم، لا تكون رهاناتنا رياضية فحسب، لأن قائمة انتظاراتنا طويلة، ونتوهم أن الرياضة تمنحنا فرصة “تاريخية نادرة” لتدارك هذا التأخر التاريخي المضني. تشعر شعوب عديدة مماثلة لنا بمثل هذا  الشعور. تصوّروا لو تنتصر إيران مثلاً على الولايات المتحدة في إحدى المباريات الجارية حالياً، هل يمكن أن نختزل هذه الانتصار في مهاراتٍ كروية للاعبين وحسن انضباطهم التكتيكي وجمال الأداء الفردي والجماعي ودقته؟ لا يمكن ذلك مطلقاً، سنعيش هذا الانتصار بمشاعر لا تخلو من تلك المواجهة المضنية بين البلدين في ساحات السياسة والطاقة والتسلّح.
الرياضة، كما يقال، هي مواصلة مواجهات أخرى عجزت السياسة عن حسمها… القاموس الرياضي غني بمثل تلك العبارات الدالّة على أنها حرب ناعمة: دفاع، هجوم، تكتيك، تصويبات، ضربة جزاء، انتصار، هزيمة… إلخ. ولكن ما يجعل من مقابلات كرة القدم التي يواجه فيها العرب فرقاً أجنبية تنخرط في سجل رمزي مكثف هو ذاكرة المتقابلين ومسافات التباعد بينهم.

خارج هذه المنافسات والمواجهات نتوزع شيعاً، ننتصر لمتعة الفريق البرازيلي أو سحر اللعب الأرجنتيني أو صلابة الفريق الفرنسي ونجاعته.. إلخ، ولكن حين يضعنا القدر الكروي الماكر أحياناً، نحن العرب، مع فرق أخرى ننسى خلافاتنا وتذيبها الكرة التي تغدو قومية. يعجز القادة العرب، منذ ما قبل جمال عبد الناصر إلى من بعده، عن جمع كلمة العرب، كما تفعل هذه الكرة. جرت القمة العربية، أخيراً، في الجزائر، ولكنها مرّت من دون أن تدير إليها أفئدة الناس ومهجهم، ومن دون أن  ترافقها أيضاً مشاعر الوحدة العربية كما تفعل كأس العالم الآن في قطر. 
ربما لهذه الكاس بالذات طعم خاص ورهانات خاصة للعرب جميعاً برمزيات مكثفة. وغدت الكرة عالماً من الرموز، لم تصنع من جِلد بل قدّت من قيم وطموحات ومشاعر. سنتحسّر لو لم يذهب العرب في مشوارهم إلى ما بعد ربع النهائي على الأقل، وسنعتبر أن هذه الكأس حين تذهب إلى غيرنا: فرنسا، البرازيل، إسبانيا.. إلخ قد انتُزعت منا. على أرضنا وجمهورنا يأتي هؤلاء “المردة” لينهبوا كأساً هي لنا أصلاً. سنعتقد أنها منا ولنا، ثم إذا ما انسحبنا سنبحث عمن يرثنا و”يكمل المشوار”، سنتعاطف آنذاك مع فرق أفريقية أو آسيوية أو من أميركا اللاتينية فيما يشبه عصبة أمم عدم الانحياز. ثمّة قوميةٌ عربيةٌ كروية ترثها نزعات عالم ثالثية، تريد أن تثأر الأطراف من المركز، بلغة سمير أمين.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى