“حرب السماوات” في الشرق الأوسط
كتب وليد فارس في “اندبندنت عربية”:
في مقالات سابقة، ركّزنا على التحالفات الممكنة في حال مواجهة شاملة في الشرق الأوسط بين المحور الإيراني والدول التي يعاديها، من الجزيرة العربية إلى كردستان إلى إسرائيل. وقد تتخذ مواجهات كهذه أشكالاً شتى على جميع الأصعدة الميدانية، من اشتباكات على الأرض، وفي البحر، وفي الأجواء.
وقد شاهدنا عدداً كبيراً من صدامات كهذه خلال السنوات المنصرمة، لا سيما بين الميليشيات التي يدعمها النظام الإيراني وأعداء “الجمهورية الإسلامية”. ففي اليمن، شنّت ميليشيات الحوثي هجماتها على الحكومة الشرعية والجنوبيين وأعضاء التحالف العربي. واستهدف الحوثيون العمق السعودي والعاصمة الإماراتية. واشتبك الحشد الشعبي في العراق مع الأميركيين والأكراد والعشائر العربية. وفي سوريا، تواجهت ميليشيات الأسد و”حزب الله” و”الباسدران” مع المعارضة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية”. أما في لبنان، فتاريخ المواجهة بين “حزب الله” وإسرائيل طويل. وكذلك الصدام بين الحزب ومعارضته اللبنانية. أضف إلى ذلك حرب الصواريخ والدرونات الكبيرة التي تعصف بالمنطقة منذ سنوات، والتي تشنّها إيران وميليشياتها على هذه الجبهات وترد عليها القوى المجابهة لها، بما فيها الولايات المتحدة، بالمثل. أما في هذه المرحلة، فقد تبرز جبهة صدام جديدة، قد تدور رحاها في أجواء المنطقة، بين إيران والتحالف الذي يواجهها.
حرب الطيران
حتى اليوم، لم يصطدم مباشرة طيران المحور الإيراني بأسلحة الجو العاملة لدى دول التحالف العربي، وإسرائيل، أو الولايات المتحدة. وذلك، بالطبع، لأن ليس لدى القوة الجوية الإيرانية قدرات الحسم ضد أي من أسلحة الجو للأطراف الثلاثة التي تواجهها. فالعمليات الجوية السعودية والإماراتية في اليمن هي ضد مواقع ميليشياوية على الأرض. وكذلك، فالغارات الجوية الإسرائيلية في سوريا والعراق، وأحياناً في لبنان، تستهدف أهدافاً أرضية أيضاً. وفي الإمكان القول نفسه عن الضربات الجوية الأميركية لمواقع الميليشيات الإيرانية، إضافة إلى تنظيم “داعش”. في المقابل، تمنعت طهران عن إقلاع طائراتها الحربية لمواجهة النفاثات العربية، والإسرائيلية والأميركية في سماء الشرق الأوسط. أما الطيران، فقام ببعض الطلعات غير الموفقة ضد الغارات الإسرائيلية. أما الطيران الروسي فتمنّع عن الاشتباكات الجوية مع الآخرين وركز على استهداف مواقع التنظيمات المسلحة في شمال سوريا. وكذلك فعل الأتراك بتركيزهم على أخصامهم على الأرض. وأخيراً، لم تخرج القاذفات العراقية واللبنانية عن أهداف محدودة ضد المجموعات “الداعشية”.
ميزان القوى الجوية
إذا ما وضعنا أسلحة الجو الأميركية والروسية والتركية جانباً، نرى أن الميزان الرقمي للقوى بين إيران من جهة، والتحالف العربي وإسرائيل من جهة أخرى، مختل تماماً لغير مصلحة الإيرانيين. فإذا ما استعرضنا عدد المقاتلات لهذه الدول نجد الآتي:
السعودية 380
إسرائيل 251
الإمارات 98
مصر 338
الأردن 44
البحرين 17
الكويت 27
أي مجموع 1155
مقابل:
إيران 141
هذا من دون مقارنة النوعية والتدريب والخبرة التاريخية. فلكل من مصر والسعودية وإسرائيل سلاح طيران أكبر وأكثر تقدماً من إيران، حتى لو ضمت الطيران الحربي السوري لها. هذا ما يفسر عدم إقحام القيادة الإيرانية بطائراتها في أي معركة خارج حدودها. ولكن، ماذا لو تحرك الطيران العربي- الإسرائيلي خارج تلك الدول، ماذا يحصل؟
العرب وإسرائيل في سماء المشرق
قد يحاجج البعض بأن مقاتلات إسرائيل وقاذفاتها تعمل دائماً خارج حدودها، من لبنان إلى سوريا إلى العراق. ويضيف هذا البعض أن الطائرات السعودية والإماراتية تسيطر على سماء اليمن. فما يمكن أن تضيفه هذه الأسلحة في النزاع القائم بين المنطقة وإيران؟
هنالك احتمالات، نظراً للتصعيد الإيراني في سائر أنحاء الشرق الأوسط:
أولاً، إذا ما تم توقيع الاتفاق النووي، ستقلل الولايات المتحدة، تحت إدارة الرئيس جو بايدن، من تصعيدها العسكري في مواجهة إيران، كي لا يصاب الاتفاق بنكسة كما حدث خلال نهاية فترة الرئيس باراك أوباما. مما سيعطي فرصة للإيرانيين أن يوسعوا تحركاتهم العسكرية في المنطقة، ويعززوا وجودهم الميداني في العراق وسوريا ولبنان، ويقتربوا استراتيجياً من إسرائيل والأردن والسعودية والكويت. إسرائيل قد تكون البادئة في توجيه ضربات ضدهم بشكل مكثف. إيران قد ترد وتطلب من “حزب الله” أن يشارك. ما سيلزم إسرائيل بإقامة مساحة تفوّق جوي في المنطقة بين العراق والمتوسط. والسيطرة على الأجواء تقود إلى استهداف القوات الإيرانية وحلفائها على الأرض أيضاً، من دون منازع.
ثانياً، إذا ما استمرت عمليات القصف الباليستي من الحوثيين في اتجاه العمق السعودي والإماراتي، في محاولة إيرانية لتدمير أو إضعاف الاقتصادين، قد يغير التحالف العربي استراتيجية الرد. فإذا ما كانت إيران تستعمل ميليشيات إقليمية لضرب التحالف انطلاقاً من اليمن، قد يعطي ذلك العرب حق الرد الإقليمي باستهداف الميليشيات المرتبطة بإيران، أو حتى القوات الإيرانية التي تتقدم في اتجاه السعودية والكويت والأردن، من الشمال. ما سيفتح المجال أمام طيران التحالف بإقامة منطقة حظر جوي داخل العراق وسوريا من جنوب الدولتين، وضرب الميليشيات الإيرانية فيها.
ثالثاً، إذا ما تطورت هذه السيناريوهات، ستتقاسم إسرائيل والتحالف السيطرة على الأجواء بين الحدود الإيرانية والبحر المتوسط، باستثناء منطقة الطيران الروسي في شمال غربي سوريا. وسيكشف ذلك المنظومة الإيرانية الميدانية والصاروخية في الدول المشرقية الثلاث. وستصبح قوى المحور الإيراني عرضة للغارات الجوية الإسرائيلية أو العربية. ضف إلى ذلك، تضاعف التحركات الجوية العربية ضد الحوثيين في اليمن. فتصبح ميليشيات إيران في الشرق الأوسط مكشوفة من الجو، ليس لأن الطيران الإيراني غير قادر على نجدتها فحسب، بل لأنه سيمنع من أن يحلق بعيداً من الأراضي الإيرانية.
حرب في الأجواء الإيرانية؟
أما تطورت المواجهات أكثر، مع أو من دون توقيع الاتفاق النووي، بين إيران من جهة ودول التحالف العربي ومعاهدة إبراهام من جهة أخرى، فقد تشهد المنطقة تطوراً خطيراً، ألا وهو اشتباك في الأجواء الإيرانية نفسها. إذ، حتى الآن، كانت الولايات المتحدة قد ضغطت على العرب وإسرائيل كي يمتنعوا عن الرد علناً على الأراضي الإيرانية مقابل الضربات الباليستية التي يشنها “الحرس الثوري الإيراني” على المنطقة. ولكن للضغط الأميركي حدوداً، ألا وهي استهداف إيران المدن العربية والإسرائيلية.
إلا أن الأوضاع باتت قريبة من هكذا سيناريو. فالصواريخ الإيرانية استهدفت الرياض وأبو ظبي وأربيل وأهدافاً اقتصادية كبيرة في المملكة. و”الباسدران” ينصب صواريخ باليستية أكثر قرباً من إسرائيل، ورؤوسها موجهة إلى المدن الإسرائيلية، كما صرح القادة الإيرانيون أكثر من مرة، وأعلنها “حزب الله” على الملأ منذ أكثر من عقد: “صواريخنا ستضرب حيفا وأبعد من حيفا”.
للتحالف العربي الحق بأن يرد داخل إيران. وقد يبدأ الرد على القوات الإيرانية في “المستعمرات”. إسرائيل من جهتها قد مارست الغارات الجوية داخل هذه المستعمرات منذ سنوات. إذاً، ماذا قد يدفع بالعرب وإسرائيل إلى نقل المعركة إلى “السماء الإيرانية”؟ التكهن هو إذا ما ضربت إيران استراتيجياً مدناً خليجية. ما سيدفع التحالف إلى اختراق الأجواء الإيرانية للرد. وإذا ما ضرب “الباسدران”، أو حتى “حزب الله”، المدن الإسرائيلية. هذا سيدفع الإسرائيليين إلى قصف إيران من داخل أجوائها. ورد العرب وإسرائيل جواً داخل إيران، من المحتمل أن يدمر سلاح الجو الإيراني بسرعة، وسلاح البحرية بنسبة كبيرة، مع توجيه ضربة قاضية للسلاح النووي. طبعاً، لدى إيران صواريخ أرض جو متطورة، وستطلق صواريخ باليستية في اتجاه أهداف خليجية وإسرائيلية. ولكن لتلك السيناريوهات منطقها وحساباتها وزمنها ونتائجها وتداعياتها.
الخلاصة
في التقييم النهائي “لحرب السماوات في الشرق الاوسط”، أن إيران تبدو وكأنها مستكبرة على دول الشرق الأوسط، خصوصاً الخليج وإسرائيل. وهي تقصف بصواريخها من دون رقيب وحسيب. ربما تتكل على ضبط النفس الإبراهمي والعربي، وعلى ضغط واشنطن على حلفائها في المنطقة كي لا يوسعوا الحرب. إلا أن طهران هي على قيد أنملة من كسر هذه المعادلة وفتح باب عليها، كان موصوداً لسنوات. أي أن تشن أسلحة الطيران العربية والإسرائيلية هجوماً شاملاً على ميليشياتها في الهلال الخصيب واليمن. وإذا ما ضُربت مدن الدول الحليفة للولايات المتحدة، قد تتلبد سماء إيران بعاصفة لم يشهدها النظام، حتى في خضم حربه مع طائرات صدام حسين.
ونبقى دائماً آملين بأن تتراجع الحروب، لا أن تتوسع.