هل تتجرأ بريطانيا على اعتماد النموذج الدنماركي الصارم ضد اللاجئين؟

رئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسن ذات التوجه اليساري والمتشددة في ملف الهجرة اعتمدت نهجاً صارماً تجاه طالبي اللجوء يمثل نموذجاً يمكن للمملكة المتحدة أن تقتدي بمعظم أركانه
كتبت ماري ديجيفسكي, في اندبندنت عربية:
تواجه بريطانيا خيار تبني النهج الدنماركي المتشدد في الهجرة، لكن اختلاف الظروف السياسية والديموغرافية والاقتصادية يجعل قدرتها على تكرار تجربة كوبنهاغن محدودة، على رغم رغبة الحكومة في خفض أعداد الوافدين وتشديد معايير اللجوء والإقامة ولم الشمل.
في المحافل الدولية تحب المملكة المتحدة أن تقدم نفسها بوصفها الدولة التي تمتلك حقاً شبه مقدس في “قيادة” الآخرين. ولهذا يبدو لافتاً إلى أن يسعى أحد أعضاء الحكومة الحالية لاستخلاص ما يمكن لبريطانيا أن تتعلمه من تجارب دول أخرى. وهنا تبرز وزيرة الداخلية شبانة محمود، التي تتهيأ للكشف عن إصلاحات في نظام الهجرة واللجوء مستوحاة جزئياً من النموذج الدنماركي.
ولماذا الدنمارك تحديداً؟ لأنها، تحت قيادة رئيسة الوزراء ميته فريدريكسن منذ عام 2019، تجمع بين كونها دولة أوروبية بحكومة يسار وسط، وبين نجاحها في خفض أعداد المهاجرين وطالبي اللجوء إلى أدنى مستوى منذ أربعة عقود عبر تشريعات صارمة وتطبيق فعال، مع عدم خرق اتفاقات جنيف والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
هذا الجانب المتعلق بحكم اليسار مهم جداً، لأنه يمنح حكومة حزب العمال غطاءً سياسياً لإجراءات كان ينظر إليها سابقاً على أنها من صلب أجندة اليمين المتطرف. ولا يعترض المسؤولون الدنماركيون على هذه الحجج تماماً، غير أنهم يقدمون تفسيراً بسيطاً: تلبية مخاوف الناس في شأن الهجرة القانونية وغير القانونية أتاح للحكومة مساحة لتنفيذ برنامجها الاجتماعي في المجالات الأخرى. وهكذا يصبح النموذج الدنماركي وسيلة لليسار كي يحافظ على موقعه في السلطة ويمنع صعود اليمين المتطرف – على عكس ما جرى في دول أخرى – من دون التخلي عن قيمه الأساس.
ومع حكومة العمال التي تواجه ضغطاً من حزب “ريفورم” في ملف الهجرة واللجوء يبدو التغريد على الإيقاع الدنماركي خياراً مغرياً. وقد يطرح سؤال مشروع: لماذا لم تعتمد الحكومات المحافظة السابقة، أو حتى وزيرة الداخلية العمالية السابقة إيفيت كوبر، هذا المسار؟
البريطانيون بين حقوق الإنسان وأزمة الهجرة لمن الغلبة؟
ويمكن أن يمتد السؤال إلى ما قبل ذلك: لماذا لم يسعَ ديفيد كاميرون، خلال مفاوضاته للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي إلى الحصول على إعفاءات واسعة في قضايا العدل والهجرة، بالصيغة نفسها التي نالتها الدنمارك عند توقيع معاهدة ماستريخت عام 1992؟
في الواقع استفادت المملكة المتحدة بدورها من مجموعة إعفاءات خاصة، وبخلاف الدنمارك بقيت خارج اتفاقية شنغن، لكن الاختلاف الأساس بين البلدين كان في كيفية استخدام بريطانيا، أو عدم استخدامها، لتلك الإعفاءات الأوروبية التي لم تعد سارية على أية حال بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، يمكن تطبيق منطق مشابه على سياسات الهجرة واللجوء التي تعتمدها الدنمارك حالياً، والتي تنظر إليها بريطانيا باهتمام.
تشمل هذه السياسات منح حماية موقتة فقط للفارين من الحروب بدلاً من منحهم إقامة دائمة، وهو ما يعني أن بعض الصوماليين والسودانيين والسوريين باتوا مطالبين بالعودة إلى أوطانهم. ولم يعد يكفي الانتماء إلى أقلية مضطهدة للحصول على اللجوء، إذ باتت الأولوية لمن يواجهون استهدافاً شخصياً مباشراً من نظام ما. وتشدد الدنمارك أيضاً شروط لم الشمل، وهي قيد المراجعة حالياً في المملكة المتحدة، عبر رفع متطلبات الدخل والعمل وإتقان اللغة، مع تحديد سن أدنى للزوجين عند 24 سنة للحد من حالات الزواج القسري. أما الإقامة الدائمة فلا تمنح إلا بعد ثماني سنوات من العيش المتواصل والعمل.
هذه الإجراءات تقع ضمن صلاحيات الدنمارك، تماماً كما يمكن أن تكون ضمن صلاحيات المملكة المتحدة إذا قررت الحكومة والبرلمان المضي بها. وهي لا تتعارض بالضرورة مع اتفاقات جنيف، في الأقل وفق تفسيرها خلال الحرب الباردة عندما كان اللجوء السياسي يمنح لقلة محدودة من الأفراد المهددين.
لكن ازدياد سهولة التنقل اليوم يعني وصول أعداد أكبر بكثير إلى الحدود الأجنبية مع حق، يكفله كل من اتفاقات جنيف والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، في طلب اللجوء. غير أن حق تقديم الطلب شيء، وحق قبوله شيء آخر، إذ تعتمد الدنمارك تفسيراً أكثر تشدداً للمعايير مقارنة بالمملكة المتحدة، من دون أن تصطدم، في معظم الحالات، بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وهذا يشير إلى أن سخاء بريطانيا النسبي يعتمد بدرجة كبيرة على التفسير وليس على نص القانون الصارم، وهي نقطة حاولت إيفيت كوبر، وتحاول اليوم شبانة محمود، معالجتها.
اتباع نهج دنماركي في منح اللجوء والإقامة ولم الشمل قد يقلل فعلاً من جاذبية المملكة المتحدة، بالتالي من أعداد الوافدين القانونيين وغير القانونيين، حتى من دون اللجوء إلى اثنين من الإجراءات الدنماركية المثيرة للجدل التي يصعب تمريرها في البرلمان أو قبولها على المستوى الشعبي، أولها إلزام طالبي اللجوء بالمساهمة في نفقاتهم من أية مقتنيات ثمينة يحملونها معهم، وثانيها سياسة توزيع المهاجرين الجدد بحيث يمنعون من السكن في المناطق ذات الكثافة العالية من غير الدنماركيين بغرض تسريع الاندماج. من الصعب تخيل أية سلطة محلية في بريطانيا ترغب أو حتى تستطيع تنفيذ مثل هذه السياسة.
لكن يبقى السؤال: هل ستنجح هذه التدابير في ردع الوافدين إلى الحد الذي حققته الدنمارك؟ فالتطبيق في بلد عدد سكانه يعادل عُشر سكان بريطانيا وأقل تنوعاً عرقياً مسألة مختلفة تماماً عنه في المملكة المتحدة. وينطبق هذا أيضاً على عدد طالبي اللجوء المرفوضين والمقيمين غير الشرعيين المدانين بجرائم، والذين يفترض ترحيلهم. فحجم المشكلة له أثر واضح، وكذلك النظام الحدودي المتراخي في بريطانيا التي ما زالت ترفض إعادة العمل بإجراءات ضبط المغادرة.
إن جاذبية اللغة الإنجليزية وسهولة إيجاد عمل، أي ضعف تطبيق قوانين العمل في بريطانيا، وغياب توافق داخل حزب العمال حول جدوى تشديد ضوابط الهجرة، كلها عوامل تجعل من الصعب على النموذج الدنماركي أن يكون أكثر من جزء من الحل. يأتي ذلك في وقت يستعد فيه حزب العمال لخسائر كبيرة محتملة أمام “ريفورم” في الانتخابات المحلية الربيعية، وربما هزيمة ساحقة في الانتخابات العامة المقبلة المتوقعة في 2029.
ومع كل الاعتراف بالاختلافات ينبغي تشجيع الوزراء على البحث عن حلول تتجاوز حدود الجزر البريطانية، وقد تكون الدنمارك التي تصنف باستمرار كواحدة من أسعد دول العالم خياراً يستحق التمعن.
وتقدم الدنمارك نموذجاً متقدماً للهوية الرقمية يتجاوز إطار إثبات الحق في العمل الذي تقترحه بريطانيا حالياً، وهي رائدة في سن قيود قانونية على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي حسب العمر، وتمتلك نظاماً صحياً وطنياً يحقق نتائج أفضل من هيئة الخدمات الصحية البريطانية، إضافة إلى شعور قوي بالتماسك المجتمعي، إضافة إلى أن ضرائبها أعلى، وهو أمر يحمل رسالة بحد ذاته: فإذا قرر وزير الخزانة رفع ضريبة الدخل هذا الشهر، فعلى دافعي الضرائب المطالبة في المقابل بلمسة دنماركية إضافية.




