أبعد من التمييز العنصري: الأبارتايد بالعبري

كتبت نداء يوسف في صحيفة “الاخبار”:
«إسرائيل، مثل جنوب إفريقيا، أبارتايد». هذا ما قاله عام 1961 هندريك فيرنورد، رئيس وزراء جنوب إفريقيا الأسبق ومهندس نظام الأبارتايد فيها. لكن نظام العدو الإسرائيلي كان أكثر مكراً من نظيره في جنوب إفريقيا، فاستطاع خداع العالم من خلال تمويه طبيعته، والتعمية على ممارساته وجرائمه في عملية بروباغاندا وتشبيك للمصالح مع مفاصل صناعة القرار والرأي في العالم، فاقتنع جزء كبير من العالم، بخاصة في الغرب الذي يناسبه أن يقتنع، بحضارية و ديمقراطية الكيان العنصري الذي أنشأه هذا الغرب نفسه على أرض فلسطين. ولكن يمكن القول إنّ «السحر انقلب على الساحر» أخيراً، حيث أصبح اسمها اليوم يقترن بهذه الكلمة التي سعى الكيان مع حلفائه لإبعادها عنه، فأصبح تعبير «الأبارتايد الإسرائيلي» معتمداً في دوائر حقوقية كانت حتى الماضي القريب ترفض استخدامه رفضاً قاطعاً
توالت في السنوات الأخيرة منشورات ومقالات وتقارير تشرح بالتفصيل الأبارتايد الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. كان آخر التقارير التي صدرت في هذا الإطار تقرير منظمة العفو الدولية، وسبقها تقارير منظمات أخرى كمنظّمة «هيومن رايتس ووتش»، وقبلها بسنوات تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا). رحّب الكثير من الخبراء والقانونيين، بخاصّة العاملين في مجال حقوق الإنسان، بالتقرير وأكّدوا على توصيفه للوضع القائم في فلسطين المحتلة. لكن لا ينبغي الخلط بين المقاربة القانونية لقضية الأبارتايد وبين الاستخدام السائد للمصطلح تعبيراً عن الإدانة والاستنكار.
قد تبرر ظروف وسياقات معينة التعامل مع مسألة الأبارتايد على أنها أعمال وممارسات منفصلة (مثل جدار الفصل العنصري)، أو ظاهرة تولدها ظروف بنيوية مُغفلة كالرأسمالية (أبارتايد اقتصادي)، أو سلوك اجتماعي خاص من جانب بعض الجماعات العرقية تجاه جماعات عرقية أخرى (عنصرية اجتماعية). غير أن هذا التقرير يتمسك بتعريف للأبارتايد كما يرد في القانون الدولي، والذي يُحمّل قي طياته مسؤوليات على الدول، كما تنص عليها الصكوك الدولية.
تعتمد استراتيجية الأبارتايد «الإسرائيلي» على تفتيت الشعب الفلسطيني كوسيلة رئيسية لضمان هيمنة «الإسرائيليين» اليهود على كامل الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين. فاستخدم نظام العدو «الإسرائيلي» شتى الوسائل المتاحة والمفتعلة لتقسيم الشعب الفلسطيني إلى مناطق جغرافية مختلفة تدار بمجموعات مختلفة من القوانين. وتعمل هذه التجزئة على تثبيت نظام الهيمنة العنصرية «الإسرائيلي» وإضعاف إرادة الشعب الفلسطيني وقدرته على مقاومة موحدة وفعّالة.
وبما أن استراتيجية التفتيت هي الوسيلة الأساسية التي يفرض بها النظام الإسرائيلي الأبارتايد، فهي في الوقت نفسه سهلة الحجب عن المجتمع الدولي من خلال تفتيت الاهتمام بالشعب الفلسطيني. إذ يتناول العالم قضية الأراضي المحتلة عام 1967 بمعزل عن قضايا فلسطينيّي أرض 1948، وبانفصال تام عن قضايا ومعاناة اللاجئين في المخيمات خارج فلسطين.
على أيّ حال، قد يعتبر البعض أنّ ما جاء في التقارير التي تتهم نظام العدو «الإسرائيلي» بالأبارتايد غير كافٍ عدا عن كونه متأخراً، بل ويغذّي شرعية وبقاء الاحتلال، إذ تخاطب التقارير في توصياتها المحتل «الإسرائيلي» بوصفه مسؤولاً لا عن الأفعال فقط، بل عن تصحيحها، وبالتالي تمنح التقارير «إسرائيل» مسؤولية تضاف إلى مسؤولياتها التي تحكم قيدها على الفلسطيني في كافّة أماكن تواجده (منظمة العفو الدولية 2022). من نتائج توصيات كهذه إعادة إنتاج وشرعنة النظام «الإسرائيلي» كنظام مهيمن، وبتوصيات تكاد تكون غير عملية وغير قابلة للتنفيذ أحياناً، كأن تقبل «إسرائيل» بمنح حق العودة أو دفع تعويضات للضحايا. ويعود السؤال الأكثر جذرية: هل بحدوث وتفكيك نظام الفصل العنصري سينتهي الاحتلال؟
من المؤسف أن التقارير لم تتعرض للنظام «الإسرائيلي» بصفته قوة استعمارية إحلالية في المنطقة، بل رفضت النظر في مسألة شرعية الاحتلال. من الفرص التي يمكن أن ندركها من خلال أهميّة هذه التقارير هو الصدى الإعلامي السياسي لمثل هذه التقارير في العالم اليوم، فقد أصبح بالإمكان استخدام خطاب حقوق الإنسان لذم وإعابة أشخاص وأنظمة، بل ودول. وعلى الرغم من السلبيات الكثيرة المصاحبة لصناعة حقوق الإنسان، فإن استخدام الخطاب نفسه لغرض تسليط الضوء على الانتهاكات التي تمس حقوق الإنسان الفلسطيني أمر إيجابي، بل ويدفع الأنظمة والحكومات للضغط سياسياً على العدو الاسرائيلي من أجل التراجع عن ممارساته. وعلى الرغم من انتقائية بعض المؤسسات الحقوقية للحقوق التي يجب تغطيتها إلا أنّ التغطية تدفع الشعوب والباحثين عن الحقيقة للبحث والغوص في أعماق القضية بشكل أكبر.
تعتمد استراتيجية الأبارتايد «الإسرائيلي» على تفتيت الشعب الفلسطيني كوسيلة رئيسية لضمان هيمنته
أمّا على صعيد الأمم المتحدة، فتدفع هذه التقارير أجهزة الأمم المتحدة، بخاصّة مجلس حقوق الإنسان إلى تبنّي موقف تجاه القضية، وبالتالي تشكيل ضغط دبلوماسي أكبر قد يؤدي إلى تعزيز حركات مقاطعة الاحتلال حتى ولو على صعيد مقاطعة بضائع المستوطنات «الإسرائيلية» على أراضي الضفة الغربية. وقد يصل الأمر إلى تبني قرارات أممية خاصة تطرح من مجلس الأمن أو الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قد تشكل ضغطاً وتؤدي إلى نتائج ملموسة. فمثلاً، وخلال فترة العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، دعت إيرلندا، بوصفها رئيسة لمجلس الأمن، إلى عقد اجتماعات طارئة تدعو فيها الكيان إلى وقف الاعتداء، كما أدّى العمل الحقوقي إلى الدفع بإيرلندا نحو اتخاذ قرارات محلية تخص مقاطعة بضائع المستوطنات.
وكذلك، كان مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية قد أصدر قراراً في أوائل عام 2021 بفتح التحقيقات في جرائم الحرب في الأراضي الفلسطينية (الضفة وغزة والقدس الشرقية حصراً من دون فتح اي تحقيق في الجرائم في سائر أنحاء فلسطين المحتلة).
يمكن الاستفادة من هذه التقارير لتدعيم الملف الفلسطيني، بحيث تكون هذه التقارير رصيداً من المواد المستخدمة في التحقيقات بما أنها مصدر من مصادر المعلومات التي تعتمدها أجهزة الأمم المتحدة.
بالنظر إلى ذلك كله، يبقى التساؤل الأهم: ما المطلوب على صعيد دعم القضية في هذا الشأن؟
تقرير منظمة العفو الدولية لم يتعرض للنظام «الإسرائيلي» بصفته قوة استعمارية إحلالية في المنطقة، بل غضّ النظر عن مسألة شرعية الاحتلال
للحديث عن خطوات عملية، يمكن:
- التركيز على أهم النقاط التي تستعرضها التقارير للحديث عن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون.
- تركيز جهود فردية وجماعية للنشر حول الموضوع والحديث عن وجهات نظر قد تفتح آفاق عمل مختلفة.
- استغلال ملف فلسطين المعروض أمام المحكمة الجنائية من خلال دفع التحقيقات كي تعتمد النظر بما جاء في هذه التقارير.
- إمكانية استغلال آلية الشكاوى الفردية التي تسمح بها لجان معاهدات حقوق الإنسان، وبالتالي تكثيف أصوات الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بشكاوى فردية وتقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تثبت تورط العدو الاسرائيلي بالأبارتايد.
- استغلال التقارير للدفع بحملات المقاطعة.
- استغلال التقرير للدفع بحراكات تضامن شعبي على صعيد دول العالم.
ويبقى الخيار الأساسي لتحرير فلسطين خيار الكفاح المسلح.