واشنطن باقية بقوة في الشرق الأوسط
كتب طوني فرنسيس في “اندبندنت عربية” :
كانت أنظار العالم مشدودة منتصف الأسبوع الماضي نحو سلسلة أحداث وتطورات، عندما فاجأت الولايات المتحدة الأميركية الجميع بضربة عسكرية شديدة الرمزية، قضت خلالها على زعيم التنظيم الإرهابي العالمي الأبرز في عمق سوريا وعلى حدود مناطق تقاطع النفوذ التركي – الروسي – الإيراني.
في تلك اللحظة كانت الصين تستضيف ألعاباً أولمبية تقاطعها أميركا وتستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إشارة إلى عمق تحالفهما، فيما تتعرض موسكو لاتهامات متتالية بالإعداد لغزو أوكرانيا بعيد اختتام ألعاب بكين.
وفي الخليج يتصاعد التوتر على وقع مفاوضات فيينا، وتتولى الميليشيات التي تدعمها إيران الاعتداء على الدول الخليجية، من اليمن وأيضاً من العراق، حيث تولت ميليشيات يعتقد أنها تابعة للحشد الشعبي “المتخصص بمكافحة الإرهاب ودواعشه”، الإعلان عن قصف الإمارات بالطائرات المسيّرة.
كانت عودة “داعش” للنشاط في العراق لافتة خلال الأسابيع الماضية، مترافقة مع هجمات في سوريا، وحتى لبنان البعيد نسبياً أدخل في الصورة مجدداً عبر الكشف عن انضمام عشرات الشباب من مدينة طرابلس إلى التنظيم الإرهابي في العراق، ولم يتطوع أحد للكشف عن طريقة عبورهم الحدود اللبنانية والسورية والعراقية الممسوكة من قبل الأجهزة الرسمية في كل من تلك البلدان.
مالت إيران إلى تفسير حركة التنظيم الإرهابي المتجددة بوصفها نتيجة تحريك أميركي، وشاركها في هذا التفسير الاتهامي رسميون روس كرروا في مناسبات سابقة مزاعم عن تولي الأميركيين نقل عناصر من “داعش” وحمايتهم في مخيمات، فيما كان الأتراك الذين يحاربون الإرهاب بدورهم لا يجدون إرهابياً إلا عناصر التنظيمات الكردية في الحزب الديمقراطي الكردستاني و”قسد” في شمال شرقي سوريا.
تفرج الجميع على هجوم “داعش” ضد سجن الصناعة في شرق سوريا الذي يضم آلاف العناصر الإرهابية. لا نقول إنهم كانوا مسرورين، ولكن ردود أفعالهم “اللامبالية” كانت تخبئ رغبة في كسر “قوات سوريا الديمقراطية” وداعميها الأميركيين.
قبل الهجوم كان عناصر “داعش” يتحركون في مناطق سيطرة النظام السوري والإيرانيين والروس، ووجهوا ضربات مميتة لجنود الجيش السوري، وفي ذروة جديدة لتحركاتهم نشطوا في العراق، وبدت بادية الأنبار ممراً أمناً لتنقلاتهم بين سوريا والعراق، وعندما تصدى 10 آلاف من جنود قوات سوريا الديمقراطية للهجوم على سجن الصناعة، اعتقلوا عشرات العراقيين الذين جاءوا للقتال إلى جانب التنظيم.
لم يكن مقاتلو “قسد” وحدهم في الميدان. أرسلت أميركا مروحيات “الأباتشي” ومقاتلات “أف-16” وجنوداً أسهموا إلى جانب جنود بريطانيا في محاصرة موقع المعارك، واكتشف الأميركيون مرة أخرى أن قوات سوريا الديمقراطية شريك يعول عليه في المعركة ضد الإرهاب.
مع تلك القوات هاجمت القوات الخاصة الأميركية مقر إبراهيم القرشي زعيم تنظيم “داعش” وقضت عليه في واحدة من أبرز عمليات التصفية منذ القضاء على أسامة بن لادن واغتيال المسؤول الإيراني قاسم سليماني، وبالقضاء على القرشي وضعت حداً ولو مؤقتاً لصعود التنظيم الأخير، الخطر والمنسق على امتداد بلاد الشام، وإضافة إلى ذلك وجهت رسائل قاسية إلى اللاعبين الدوليين والإقليميين.
أول هذه الرسائل إلى تركيا التي أقام زعيم “داعش” مقره على حدودها وضمن المنطقة الأمنية التي تشرف عليها، وقد أشارت وزارة الخارجية الروسية إلى هذه الحقيقة في بيان حمل نبرة اتهام لتركيا. قال البيان الروسي إن “اختفاء زعيم داعش في منطقة إدلب دليل على أن هذه المنطقة لا تزال تستخدم من قبل الإرهابيين الدوليين، مما يتطلب القضاء على معقل المسلحين مثلما تنص عليه الاتفاقات مع تركيا”.
ولا تقف الرسالة الأميركية إلى تركيا عند هذا الحد، فتصفية القرشي بمساندة قوات سوريا الديمقراطية، والأكراد أساس فيها، هي إعلان مباشر بمدى أهمية هذه القوات بالنسبة إلى أميركا، وأن الحملة التركية عليها لا يمكن أن تستمر، وأن الوجود الأميركي إلى جانبها هو عنصر أساس في تحديد مصير المعركة على الإرهاب ومستقبل سوريا في آن.
الرسالة الثانية إلى روسيا التي تشرف بقوة على الوضع في سوريا وتقيم علاقات أمنية مع تركيا في تلك المنطقة بمقتضى اتفاقات “أستانا”، وفي هذه الرسالة تكشف أميركا عن قدراتها الاستخباراتية والعسكرية وإمكان وصولها برجالها إلى أي نقطة في الأراضي السورية.
لقد عجزت روسيا عن كشف القرشي وقبله أبو بكر البغدادي، لكن أميركا تمكنت من قتلهما فيما انشغل الشركاء باتهامها برعاية “داعش”.
وفي كل حال أبلغت روسيا بالعملية قبل حصولها وفق آلية فض الاشتباك، وبحسب “CNN” قيل لها إن القوات الأميركية “ستنشط في منطقة واسعة شمال غربي سوريا أثناء مدة معينة، وعلى القوات الروسية الابتعاد”.
الرسالة الثالثة لإيران التي أظهرت خلال مفاوضات فيينا عدوانية فائقة تجاه العراق ودول الإقليم تحت عناوين المقاومة ومحاربة الإرهاب، فيوم تنفيذ الهجوم على رئيس التنظيم الإرهابي الذي تواظب إيران على حديثها عن مكافحته، كان أحد فصائلها في العراق يفخر بإطلاق قذائف باتجاه الإمارات في مواصلة عدوانية لم يقم به أنصارها من اليمن. وفي عمليتها حشرت أميركا إيران في زاوية ألاعيبها، وقلصت إمكان ضغطها في العراق تحت عنوان حمايته من الإرهاب.
الرسالة الرابعة كانت لحلفاء أميركا وخصومها على السواء، فقد تعرضت الولايات المتحدة إلى انتقادات وشكوك نتيجة انسحابها “المخزي” من أفغانستان، وتراخيها في مواجهة السياسة الإيرانية واعتداءات جماعاتها، ومن ذلك الاعتداءات على دول الخليج وصولاً إلى الهجوم المنسوب إلى إيران على قاعدة “التنف” الأميركية في شرق جنوبي سوريا قبل شهور.
وخلاصة الرسالة الأميركية الجديدة أن واشنطن لا تزال موجودة وفاعلة بقواتها وبحلفائها، وفي سوريا الأكراد هم حليفها الأول.