صدام حفتر وعماد الطرابلسي.. ومشاعر المودة في إسطنبول
كتب الحبيب الأسود, في “العرب” :
الليبيون يعلمون بوجود جسور تواصل بين سلطتي الأمر الواقع في طرابلس وبنغازي اللتين تمثّل كلّ منهما عنصرًا مكمّلًا للآخر حتى وإن كان كل طرف ينظر إلى الطرف الثاني على أنه يمثّل بلدًا شقيقًا.
أكدت الصورة الودية التي تجمع بين وزير داخلية حكومة الوحدة الوطنية الليبية عماد الطرابلسي ورئيس أركان القوات البرية في الجيش الوطني صدام حفتر، أنهما راضيان بما تسير عليه الأوضاع الحالية في البلاد، وخاصة من ناحية احترام قرار وقف إطلاق النار الذي كان قد أبرم في جنيف قبل أربع سنوات بعد معارك ضارية أدت إلى خسائر مادية وبشرية فادحة. وكان لكل من الرجلين دوره البارز فيها، ولم يتم حسمها إلا بتدخل تركيا لفائدة سلطات طرابلس على حساب قوات حفتر بالاعتماد على الطيران المسيّر. اليوم، تركيا هي التي تحتضن اللقاء، وهي التي تستقبل صدام، وكأن شيئًا لم يكن.
كان لافتًا أن صدام حفتر، الذي وصل الثلاثاء إلى مدينة إسطنبول لزيارة معرض “ساها إكسبو 2024” الدولي للدفاع، المقام تحت إشراف وزارة الدفاع التركية، قد التقى وزير الدفاع التركي يشار غولر، الذي كان وراء دعوته شخصيًا لحضور التظاهرة ليس فقط بصفته رئيس أركان القوات البرية التابعة للجيش، وإنما كذلك بصفته الرجل القوي حاليًا والمرشح لتولي مناصب أكبر خلال المرحلة القادمة.
◄ المعطى الذي لا يمكن نكرانه هو أن ليبيا اليوم هي أقرب إلى ما كانت عليه قبل 1963 ولكن من دون حكم مركزي، وأي حل مستقبلي لن يكون بإمكانه تجاهل التقسيم الفيدرالي سواء في صورته القديمة أو الحالية
وفي الوقت الذي كان فيه صدام في ضيافة وزير الداخلية التركي، كان شقيقه أبوالقاسم، مدير عام صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، يوقع عقودًا جديدة مع شركة “سيلاهتار أوغلو” التركية لتنفيذ عدد من المشروعات في مدينتي بنغازي وسلوق، تشمل المشروعات تطوير بحيرة جليانة والطرق المحاذية لها، وإنشاء خمسة جسور جديدة حولها في مدينة بنغازي، ومشروع إنشاء وتطوير البنية التحتية المتكاملة لمدينة سلوق. بعد أن وقع الأحد الماضي على عقود مماثلة مع شركتي “وادي النيل” و”نيوم” المصريتين تتعلق بعدد من المشاريع في المدن والمناطق الليبية، من بينها طريق طبرق – أمساعد، واستكمال أعمال كورنيش درنة بما فيها البنية التحتية والصرف الصحي، وتوسعة عقبة الباكور في بنغازي.
أكثر ما لفت انتباه المراقبين الأجانب هو صورة لقاء وزير داخلية الدبيبة وابن حفتر التي لم يكن لها تأثير مماثل في الشارع الليبي، والسبب أن عموم الشعب يعلم بوجود جسور تواصل بين سلطتي الأمر الواقع في طرابلس وبنغازي، اللتين تمثّل كلّ منهما عنصرًا مكمّلًا للآخر، بل ومبررًا لوجوده، حتى وإن كان كل طرف ينظر إلى الطرف الثاني على أنه يمثّل بلدًا شقيقًا. فطرابلس العاصمة تتحول بموجب الاتفاق غير المعلن بينهما إلى طرابلس الإقليم بثقلها الديموغرافي والسياسي الكبير، وبنغازي تتحول إلى إقليم برقة مع امتدادها إلى الوسط والجنوب بثقلها الجغرافي والاقتصادي كأكبر مصدر للثروة النفطية وأطول مجال للحدود البرية مع دول الجوار.
يتعامل الساسة الليبيون فيما بينهم بكثير من البراغماتية، ولذلك فإن جسور التواصل لم تنقطع بينهم في يوم من الأيام. أدت اللقاءات التي كثيرًا ما كانت تجمع بين صدام حفتر وإبراهيم الدبيبة إلى تحقيق الكثير من الثغرات في المشهد العام بالبلاد، وخاصة في علاقة بمصير شخصيات كان يُنظر إليها على أنها محصنة من الإقالة والإبعاد والملاحقة، مثل مصطفى صنع الله الذي جرت إطاحته من على رأس المؤسسة الوطنية للنفط في يوليو 2022 وتعيين فرحات بن قدارة بدلاً منه، والصديق الكبير الذي كانت إقالته من منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي في أغسطس الماضي بمثابة مسرحية مكتملة الأركان من نص وتمثيل وإخراج، وقام ببطولتها رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بإيعاز من عبدالحميد الدبيبة بعد اتفاق غير معلن مع قيادة الجيش، ليتم إسدال الستار بشكل نهائي على أسطورة الرجل القوي الذي طالما كان هناك اعتقاد بأن لا أحد يستطيع المساس به طالما أنه صديق الأميركان والإنجليز والأتراك، ويحظى بدعم عقيلة صالح.
وإبراهيم الدبيبة، ابن رجل الأعمال علي الدبيبة، والذي يبدو عمليًا كمستشار سياسي لعبدالحميد الدبيبة، هو في الحقيقة رئيس حكومة الظل في طرابلس، وهو الفاتق الناطق على مختلف الأصعدة، وصاحب القرار الأخير عندما يتعلق الأمر بالثروة والصفقات والعقود والتعيينات السيادية في مناطق نفوذه. وخلال السنوات الأخيرة كانت له لقاءات عدة مع صدام حفتر الذي يسبق أشقاءه في تمثيل والده الممسك بمقاليد السلطة الفعلية في شرق البلاد، لاسيما من حيث التخطيط للقرارات المهمة. وهما عندما يجتمعان في مطعم أو مقهى فخم في عاصمة كبرى إنما يلتقيان كصديقين ويتحاوران كرجلين قويين كل منهما يمتلك مفاتيح السلطة والثروة في مناطق سيطرته. وكما يتحدثان في الملفات الشائكة والصفقات الكبرى، فإنهما يتبادلان آخر النكات بخصوص المشهد العام الذي لا يستطيع تفكيكه إلا من لديهم القدرة العملية على التأثير في مفاصله.
◄ أكثر ما لفت انتباه المراقبين هو صورة لقاء وزير داخلية الدبيبة وابن حفتر التي لم يكن لها تأثير مماثل في الشارع الليبي، والسبب أن الشعب يعلم بوجود جسور تواصل بين سلطتي الأمر الواقع في طرابلس وبنغازي
من المثير أن صدام وإبراهيم يرفضان تنظيم الانتخابات جملة وتفصيلاً، ويعتبران أن الوضع الحالي هو الأمثل بالنسبة إليهما، ويتطلعان إلى استمرار سيطرتهما على المشهد سواء بالاعتماد على السلاح أو على الثروة أو بقطع الطريق أمام المنافسين. وهما مقتنعان بأن حكم ليبيا سهل ويسير، وأن من وضع يده على المقود لا يمكن أن يتخلى عنه، وأن المجتمع الدولي يمكن التعامل معه بنفس أدواته، حتى أن المبعوثين الأجانب لا يجدون في الأخير الكلمة التي قد يبنون عليها موقفًا. يتفق صدام وإبراهيم على ضرورة استبعاد كل المنافسين المحتملين لحكم الأسرتين في طرابلس وبنغازي، وفي مقدمتهم سيف الإسلام القذافي الذي تقوم سلطة الشرق بملاحقة أنصاره والزج بهم في السجون. وفي أوائل أكتوبر الجاري قامت قوة تابعة لحكومة الدبيبة يديرها مدير الأمن الداخلي لطفي الحراري بإيقاف العقيد العجمي العتيري آمر كتيبة أبوبكر الصديق المعروف بأنه المشرف على حماية سيف الإسلام عندما كان في طريقه إلى تونس للعلاج، ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد إعلان النفير العام في الزنتان والتحذير من إمكانية الدفع بالمنطقة الغربية إلى مواجهات دموية بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة الموالية لابن القذافي.
وبالنظر اليوم إلى مناطق التماس بين سلطات طرابلس وبنغازي، فإن هناك تعاونًا واضحًا بين الطرفين، وهناك ليبيون من الجانبين يتبادلون المعلومات المخابراتية والأمنية، كما يتبادلون المشاعر الودية في المناسبات الخاصة والعامة. وهناك مسلحون يتقاسمون الطعام والنكات وكأنهم يقتسمون حدودًا بين دولتين، وفي أحيان كثيرة يتشاركون في ملاحقة مهربين أو مهاجرين غير شرعيين، أو يتعاونون على قضاء مصالح خاصة فيما بينهم، وخاصة إذا وجدوا أنفسهم تحت مظلة الانتماء القبلي الذي يحدد الكثير من اتجاهات التواصل والاتفاق.
دعت السلطات التركية صدام حفتر بصفته رئيس أركان القوات البرية للجيش الذي حاربته في العام 2020 إلى معرض “ساها إكسبو 2024”، ودعت شقيقه أبا القاسم إلى إبرام عدد من عقود إعادة الإعمار مع شركاتها، وأكدت بذلك أنها دخلت في مرحلة جديدة من العلاقات مع بنغازي في سياق التحولات التي تشهدها المنطقة، لاسيما في ظل “التطبيع” بين أنقرة والقاهرة، والتمدد الروسي، والتنافس الأوروبي، والارتباك الأميركي، وكذلك في إطار التعامل مع حقيقة ما يدور على الأرض. فسلطات آل الدبيبة وإن كانت تمتلك الشرعية الدولية فإن حيز نفوذها الجغرافي لا يتجاوز خمس مساحة ليبيا، بينما سلطات آل حفتر هي التي تمتد إلى أربعة أخماس الجغرافيا الليبية وتتحكم في مصادر الثروة وفي المنافذ الحدودية مع العمق الأفريقي. كما أن المعطى الذي لا يمكن نكرانه هو أن ليبيا اليوم هي أقرب إلى ما كانت عليه قبل 1963 ولكن من دون حكم مركزي، وأي حل مستقبلي لن يكون بإمكانه تجاهل التقسيم الفيدرالي سواء في صورته القديمة أو الحالية، ولا مصالح الممسكين اليوم بسلطة الأمر الواقع، وهو ما يدركه عماد الطرابلسي وهو يتحدث إلى صدام حفتر، ويعتمل في ذهن الدبيبة والمقربين منه والمحسوبين عليه.